صفحة جزء
قوله عز وجل:

فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم .

قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه، وهو: "فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكا وأذعنوا وتهيئوا لغزوهم عدوهم "فلما فصل" و"فصل" معناه: خرج [ ص: 11 ] بهم من القطر وفصل حال السفر من حال الإقامة. قال السدي وغيره: كانوا ثمانين ألفا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان. وقال وهب بن منبه: لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض.

واختلف المفسرون في النهر- فقال وهب بن منبه: لما فصل طالوت قالوا له: إن المياه لا تحملنا فادع الله يجر لنا نهرا، فقال لهم طالوت: إن الله مبتليكم الآية. وقال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين، وقاله ابن عباس- وقال أيضا هو والسدي: النهر نهر فلسطين- وقرأ جمهور القراء: "بنهر" بفتح الهاء. وقرأ مجاهد، وحميد الأعرج، وأبو السمال، وغيرهم: "بنهر" بإسكان الهاء في جميع القرآن.

ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى. وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته وسهولته، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الأكف أنظف الآنية" ومنه قول الحسن رحمه الله:


لا يدلفون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح



[ ص: 12 ] وظاهر قول طالوت: إن الله مبتليكم بنهر هو أن ذلك بوحي إلى النبي، وإخبار من النبي لطالوت. ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب، فليس يحارب إلا بالجند المطيع- ومنه قول معاوية: "علي في أخبث جند وأعصاه، وأنا في أصح جند وأطوعه"، ومنه قول علي رضي الله عنه: "أفسدتم علي رأيي بالعصيان".

وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية، كما قال عروة:


................. ...     وأحسو قراح الماء والماء بارد



فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم.

وقد ذهب قوم إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم.

وقوله: "فليس مني" أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان. ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا، ومن رمانا بالنبل فليس منا، وليس [ ص: 13 ] منا من شق الجيوب ولطم الخدود" ، وفي قوله : ومن لم يطعمه سد للذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغات لم يأت الكلام: "ومن لم يشرب منه".

وقرأ أبو عمرو، ونافع، وابن كثير: "غرفة" بفتح الغين، وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر، والمفعول محذوف، والمعنى: إلا من اغترف ماء غرفة. وقرأ الباقون: "غرفة" بضم الغين، وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به، لأن الغرفة هي العين المغترفة، فهذا بمنزلة: إلا من اغترف ماء، وكان أبو علي يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضا من جهة أن "غرفة" بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف.

ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه- وروي عن ابن عباس، وقتادة، وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم- فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة. فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله، وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.

التالي السابق


الخدمات العلمية