صفحة جزء
[ ص: 45 ] قوله عز وجل:

لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد

قرأ الجحدري: "لقد كنت" بكسر التاء على مخاطبة النفس، وكذلك كسر الكافات بعد، وقال صالح بن كيسان، والضحاك ، وابن عباس : معنى قوله تعالى: "لقد كنت" الآية أن يقال للكافر الغافل من ذوي التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن عز وجل، وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عنها وعن النظر فيها: لقد كنت في غفلة من هذا، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك، أي: بصيرتك، وهذا كما تقول: "فلان حديد الذهن والفؤاد" ونحوه، وقال مجاهد : هو بصر العين: أي: اشتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة، وقال زيد بن أسلم : قوله تعالى: ذلك ما كنت منه تحيد ، وقوله تعالى: "لقد كنت" الآية مخاطبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا، أي: لقد كنت يا محمد، في غفلة عن معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك فبصرك اليوم حديد.

وهذا التأويل يضعف من وجوه: أحدها أن "الغفلة" إنما تنسب أبدا إلى مقصر، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده، وثانيها أن قوله تعالى -بعد هذا- "وقال قرينه" يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور، وهذا الذي يقال له: فبصرك اليوم حديد وإن جعلناه عائدا على ذي النفس في الآية المتقدمة، جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن، فتأمله، وثالثها أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط، وهو أجرى في الآية وأولى بالرصف، والوجه عندي ما قاله الحسن، وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر.

و فكشفنا عنك غطاءك قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الحياة بعد الموت.

قوله تعالى: وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ، قال جماعة من المفسرين: قرينه من زبانية جهنم، أي قال: هذا العذاب الذي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ففي هذا تحريض على الكافر واستعجال به.

وقال قتادة ، وابن زيد : بل قرينه الملك الموكل بسوقه، فكأنه قال: هذا الكافر الذي جعل إلى سوقه، فهو لدي حاضر، وقال الزهراوي : "وقال قرينه" شيطانه، وهذا ضعيف، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله: "ربنا ما أطغيته" هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف، ولفظة القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين، وتحتمله هذه الآية، أي: هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي، وموجب عذابه. ومماشي الإنسان في طريقه قرين، وقال الشاعر :


عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي



والقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله تعالى: قال قرينه ربنا ما أطغيته إذ المقارنة تكون على أنواع، وقال بعض العلماء: قرينه في هذه الآية عمله قلبا وجوارحا.

وقوله تعالى: "ألقيا في جهنم" معناه: يقال: ألقيا في جهنم، واختلف الناس، لمن يقال ذلك؟ فقالت جماعة من المفسرين: هو قول لملكين من ملائكة العذاب، وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي : هو قول للسائق والشهيد، وحكى الزهراوي أن المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان، وعلى هذين القولين لا نظر في قوله تعالى: "ألقيا"، وقال مجاهد وجماعة من المتأولين: هو قول للقرين، إما السائق وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم، واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله تعالى: "ألقيا" وهى مخاطبة لواحد، فقال المبرد : معناه: ألق ألق ، فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيدا [ ص: 46 ]

فرد التثنية إلى الضمير اختصارا كما قال :


. . . . . . . . . . . . . .     لفتك لأمين على نابل



يريد: ارم ارم. وقال بعض المتأولين: المراد: "ألقين"، فعوض من النون ألفا كما تعوض من التنوين، وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب: هذا جرى على عادة العرب، وذلك أنها كان الغالب عندها أن يترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة، فكل واحد منهم يخاطب اثنين، فكثر ذلك في كلامها وأشعارها حتى صار عرفا في المخاطبة، فاستعمل في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار: خليلي، وصاحبي، وقفا نبك ونحوه، وقد جرى المحدثون على هذا الرسم، فيقول الواحد: حدثنا، -وإن كان قد سمع وحده-، ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج : يا حرسي اضربا عنقه، وهو دليل على عادة العرب، ومنه قول الشاعر :


فإن تزجراني بابن عفان أنزجر     وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا



[ ص: 47 ] وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "ألقيا" بتنوين "ألقيا". و "كفار" بناء مبالغة، و "عنيد" معناه: عاند عن الحق أي: منحرف عنه.

وقوله تعالى: "مناع للخير" لفظ عام للمال والكلام الحسن والتعاون على الأشياء، وقال قتادة ، ومجاهد ، وعكرمة : معناه: الزكاة المفروضة، وهذا التخصيص ضعيف، و"معتد" معناه: بلسانه ويده، و "مريب" معناه: متلبس بما يرتاب به، أراب الرجل إذا أتى بريبة ودخل فيها. قال الثعلبي : قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقال الحسن: "مريب": شاك في الله تعالى ودينه.

قوله تعالى: الذي جعل مع الله الآية، يحتمل أن يكون "الذي" بدلا من "كفار" ويحتمل أن يكون صفة له من حيث تخصص "كفار" بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه بهذه المعرفة، ويحتمل أن يكون "الذي" ابتداء وخبره في قوله تعالى: "فألقياه"، ودخلت الفاء للإبهام الذي في "الذي" فحصل الشبه بالشرط، وفي هذا نظر، ويقوى عندي أن يكون "الذي" ابتداء، ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا، ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا فرام أن يبرئ نفسه [ ص: 48 ] ويخلصها بقوله لربه: ربنا ما أطغيته ، وقوله: ربنا ما أطغيته ليست بحجة لأنه كذب في نفي الإطغاء عن نفس جملة، والحقيقة أنه أطغاه بالوسوسة والتزين، وأطغاه الله تعالى بالخلق، والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه لا رب غيره، ويوصف بالضلال البعيد مبالغة، أي لتعذر رجوعه إلى الهدى.

وقوله تعالى: لا تختصموا لدي معناه: قال الله تعالى لا تختصموا لدي بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئا إذ قد استوجب جميعكم النار. وقد أخبر تعالى بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اقتصاص واقتضاء، فأيده تعالى بقوله: ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ، وجمع الضمير في قوله تعالى:"لا تختصموا" يريد تعالى بذلك مخاطبة جميع القرناء; إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين: لا تغلظوا علي، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما، وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل عليهم السلام والكتب من تعذيب الكفرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية