صفحة جزء
[ ص: 158 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الرحمن

وهي مكية فيما قال الجمهور من الصحابة والتابعين وقال نافع بن أبي نعيم ، وعطاء ، وقتادة ، وكريب، وعطاء الخراساني ، عن ابن عباس : رضي الله عنهما: هي مدنية نزلت عند إباية سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والأول أصح، وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة: وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا ؟، وفي السيرة أن ابن مسعود جهر بقراءتها في المسجد حتى قامت إليه أندية قريش فضربوه، وذلك قبل الهجرة.

قوله عز وجل:

الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان

"الرحمن" بناء مبالغة من الرحمة، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون "الرحمن" آية تامة، كأن التقدير: الرحمن ربنا، وقاله [ ص: 159 ] الرماني و أن التقدير: الله الرحمن، وقال الجمهور: إنما الآية "الرحمن علم القرآن"، فهو جزء آية.

وقوله تعالى: علم القرآن تعديد نعمة، أي: هو من به، وعلمه الناس، وخص حفاظه وفهمته بالفضل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق أن الله تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا ما منها موضع صرح فيه بلفظة الخلق ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا كلها نصت على خلقه، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو.

و "الإنسان" هنا اسم الجنس، حكاه الزهراوي وغيره، و"البيان": النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول، قاله ابن زيد والجمهور، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان، وقال قتادة : هو بيان الحلال والحرام والشرائع، وهذا جزء من البيان العام، وقال قتادة : "الإنسان" آدم عليه السلام، وقال ابن كيسان : "الإنسان" محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التخصيص لا دليل عليه، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان، فكأن الله تعالى قال: من ذلك البيان وفيه معتبر كون الشمس والقمر بحسبان، فحذف هذا كله، ورفع "الشمس" بالابتداء، وهذا ابتداء تعديد نعم.

واختلف الناس في قوله تعالى: "بحسبان" فقال مكي ، والزهراوي ، عن قتادة : هو مصدر كالحساب في المعنى، كالغفران والطغيان في الوزن، وقال أبو عبيدة معمر لها في طلوعها وغروبها وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك ، وقتادة . وقال ابن زيد : لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئا من مقادير الزمان، وقال مجاهد : الحسبان: الفلك المستدير، شبه بحسبان الرحى وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة.

قوله تعالى: والنجم والشجر يسجدان ، قال ابن عباس ، والسدي ، وسفيان : [ ص: 160 ] "النجم": النبات الذي لا ساق له، وسمي نجما لأنه نجم، أي: ظهر وطلع، وهو مناسب للشجر يشبه به، وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : النجم: اسم الجنس من نجوم السماء، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض لأنهما في ظاهرهما، وسمي الشجر من اشتجار غصونه وهو تداخلها، واختلف الناس في هذا السجود، فقال مجاهد والحسن : ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته، وكذلك في النجم على القول الآخر، وقال مجاهد أيضا ما معناه: أن السجود في هذا كله تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل ونحوه، ومنه قول الشاعر:


. . . . . . . . . . . . . . . . . ترى الأكم فيها سجدا للحوافر



وقال تعالى: "يسجدان" وهما جمعان، لأنه راعى اللفظة، لأنه اسم مفرد اسم للنوع، وهذا كقول الشاعر:


ألم يحزنك أن حبال قومي     وقومك قد تباينتا انقطاعا



وقرأ الجمهور: "والسماء رفعها" بالنصب عطفا على الجملة الصغيرة وهي "يسجدان"; لأن هذه جملة من فعل وفاعل وهذه كذلك، وقرأ أبو السمال: "والسماء رفعها" بالرفع عطفا على الجملة الكبيرة وهي قوله تعالى: والنجم والشجر يسجدان ; لأن هذه الجملة من مبتدأ وخبر، والأخرى كذلك، وفي مصحف ابن مسعود رضي الله [ ص: 161 ] عنه: "وخفض الميزان"، ومعنى "وضع": أقر وأثبت، و"الميزان": العدل فيما قال الطبري ، ومجاهد ، وأكثر الناس. وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : إنه الميزان المعروف، وهو جزء من الميزان الذي يعبر به عن العدل، ويظهر عندي أن قوله تعالى: ووضع الميزان يريد به العدل، وأن قوله تعالى: ألا تطغوا في الميزان ، وقوله: وأقيموا الوزن بالقسط ، وقوله: ولا تخسروا الميزان يريد به الميزان المعروف، وكل ما قيل محتمل سائغ. وقوله تعالى: "ألا تطغوا" نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان، وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس، و"ألا" هو بتقدير: "لئلا" أو مفعول من أجله، و "تطغوا" نصب، ويحتمل أن تكون "أن" مفسرة فيكون "تطغوا" جزم بالنهي، وفي مصحف ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تطغوا" بغير "أن". وقرأ جمهور الناس: "ولا تخسروا" من أخسر، أي: نقص وأفسد، وقال بلال بن أبي بردة : "وتخسروا" بفتح التاء وكسر السين من خسر، ويقال: خسر بمعنى نقص وأفسد كجبر وأجبر، وقرأ بلال أيضا -فيما حكى عنه ابن جني -: "تخسروا" بفتح التاء والسين من خسر بكسر السين.

واختلف الناس في "الأنام"، فقال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض ما روي عنه: هم بنو آدم فقط، وقال الحسن بن أبي الحسن: هم الثقلان الجن والإنس، وقال ابن عباس أيضا وقتادة ، وابن زيد ، والشعبي : هم الحيوان كله. و"الأكمام" في النخل موجودة في الموضعين: فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها، وطلع النخل في كم من جهة، وقال قتادة : أكمام النخيل رقابها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والكم من النبات كل ما التف على شيء وستره، ومنه كمائم الزهر، وبه شبه كم الثوب.

[ ص: 162 ] والحب ذو العصف والريحان ، الحب ذو العصف هو القمح والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه، وهي العصيفة إذا يبست، ومنه قول علقمة بن عبدة:


تسقى مذانب قد مالت عصيفتها     حدورها من أتي الماء مطموم



قال ابن عباس رضي الله عنهما: العصف: التبن، وتقول العرب: خرجنا نتعصف، أي: يستعجلون عصيفة الزرع، وقرأ ابن عامر ، وأبو البرهسم: "والحب" -بالنصب عطفا على "الأرض"- "ذا العصف والريحان"، إلا أن أبا البرهسم خفض النون. واختلفوا في الريحان، فقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : معناه: الرزق، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب:


سلام الإله وريحانه     وجنته وسماء درر



وقال الحسن: هو ريحانكم هذا، وقال ابن جبير : هو كل ما قام على ساق، وقال ابن زيد ، وقتادة : الريحان هو كل مشموم طيب الريح من النبات، وفي هذا النوع نعمة عظيمة، فمنه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك وقال الفراء : العصف فيما يؤكل، والريحان كل ما لا يؤكل. وقرأ جمهور الناس: "والحب ذو العصف والريحان" [ ص: 163 ] وهذه القراءة في المعنى كالأولى، في الإعراب حسنة الاتساق عطفا على "فاكهة"، وقرأ حمزة ، والكسائي وابن محيصن: "والحب" بالرفع "ذو العصف والريحان" بخفض "الريحان" عطفا على "العصف"، كأن "الحب" هما له على أن "العصف" منه الورق وكل ما يعصف باليد والريح فهو رزق البهائم، و"الريحان" منه الحب وهو رزق الإنس، والريحان -على هذه القراءة- لا يدخل فيه المشموم بتكلف. و"ريحان" هو من ذوات الواو، قال أبو علي : إما أن يكون ريحان اسما وضع موضع المصدر، وإما أن يكون مصدرا على وزن فعلان، كالليان وما جرى مجراه أصله روحان، أبدلت الواو ياء كما أبدلوا الياء واوا في "أشاوي"، وإما أن يكون مصدرا مما شذ في المعتل كما شذ كينونة وبينونة، فأصله ريوحان، قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فجاء "ريحان" فخفف، كما قالوا: ميت وميت وهين وهين.

و"الآلاء": النعم، واحدها إلى مثل معى وألى مثل نقى، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمن، وإلي مثل حصن، حكى هذين الزهراوي ، والضمير في قوله تعالى: "ربكما" للجن والإنس، وساغ ذلك ولم يصرح لها بذكر على أحد وجهين: إما أنهما قد ذكرا في قوله تعالى: "للأنام" على ما تقدم من أن المراد به الثقلان، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله تعالى: "خلق الإنسان" و"خلق الجان" فساغ تقديمهما في الضمير اتساعا. وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب "ألقيا في جهنم"، [ ص: 164 ] "ويا غلام اضربا عنقه"، وقال منذر بن سعيد : خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله للإنس والجان، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه رضي الله عنهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن جواب الجن خير من سكوتكم، إني لما قرأتها على الجن قالوا: لا نكذب بآلاء ربنا".

التالي السابق


الخدمات العلمية