صفحة جزء
[ ص: 259 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الحشر

هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم، وهي سورة بني النضير; وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد عاهد بني النضير على سلم وهم يرون أنه لا ترد له راية، فلما جرت هزيمة أحد ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده وموالاتهم للكفار، فجمع إليهم وحاصرهم وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة: خيبر والشام وغير ذلك من البلاد، ثم كان أمر بني قريظة مرجعه من الأحزاب.

قوله عز وجل:

سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار

قد تقدم القول في تسبيح الجمادات التي يتناولها عموم "ما في السماوات وما في الأرض"، وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: ذلك على الحقيقة، وقال آخرون: ذلك مجاز، أي: أن آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح وداعية إلى التسبيح ممن له أن يسبح، وقال مكي : "سبح" معناه: صلى وسجد، فهذا كله بمعنى الخضوع والطوع، و"العزيز الحكيم" صفتان مناسبتان لما يأتي بعد من قصة العدو الذين أخرجهم من ديارهم.

و الذين كفروا من أهل الكتاب هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة، وكان يقال للقبيلتين: الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة، ولهم نخل [ ص: 260 ] وأموال عظيمة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته الإبل حاشى الحلقة -وهي جميع السلاح-: فخرجوا إلى بلاد مختلفة، فذلك قوله تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم .

وقوله تعالى: "لأول الحشر" اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن "الحشر" هو الجمع والتوجيه إلى ناحية ما، فقال الحسن بن أبي الحسن، وغيره: أراد حشر القيامة، أي: هذا أوله، والقيام من القبور آخره، وروي عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "امضوا، هذا أول الحشر وإنا على الأثر" ، وقال عكرمة ، والزهراوي ، وغيرهما: المعنى: لأول موضع الحشر وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى الشام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير: "اخرجوا"، قالوا: إلى أين يا محمد؟ قال: "إلى أرض المحشر"، وقال قوم -في كتاب المهدوي- المراد الحشر في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله، والذي فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأهل خيبر آخره، وأخبرت الآية بمغيب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: "لا يبقين دينان في جزيرة العرب" ، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم، قال الخليل -فيما حكى الزجاج -: سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات. وفي هذه الإحاطة نظر.

وقوله تعالى: ما ظننتم أن يخرجوا معناه: لمنعتهم وكثرة عددهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم، وقوله تعالى: "من الله" يريد: من جند الله وحزب الله. وقوله تعالى: فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا عبارة عن إظهار الله تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل. وقرأ الجمهور: "الرعب" [ ص: 261 ] بسكون العين، وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : "الرعب" بضم العين.

واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقال الضحاك ، والزجاج ، وغيرهما: كلما هدم المسلمون من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت وجبروا الحصن دأبا، فهذا معنى تخريبهم، وقال الزهري وغيره: كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافا ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنه. وقوله تعالى: وأيدي المؤمنين من حيث فعلهم بكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم، فكأنهم قد خربوها بأيدي المؤمنين، وقال جماعة من المفسرين: إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي، وقال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوا هم من داخل، وقرأ جمهور القراء: "يخربون" بسكون الخاء وتخفيف الراء، وقرأ أبو عمرو وحده، والحسن -بخلاف عنه- وقتادة ، وعيسى : "يخربون" بفتح الخاء وشد الراء، فقال فريق من العلماء اللغويين: القراءتان بمعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء : "خرب" معناه: هدم وأفسد، و"أخرب" معناه: ترك الموضع خرابا وذهب عنه.

ثم نبه تبارك وتعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار أي: العقول والأفهام.

التالي السابق


الخدمات العلمية