صفحة جزء
[ ص: 439 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة [المزمل]

وهي مكية كلها في قول المهدوي وجماعة، وقال الجمهور: هي مكية إلا قوله تعالى: إن ربك يعلم إلى آخر السورة، فإن ذلك نزل بالمدينة.

قوله عز وجل:

يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا

قوله تعالى: يا أيها المزمل نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس، لم نودي بها؟ فقالت عائشة ، والنخعي ، وجماعة: لأنه كان وقت نزول الآية متزملا بكساء، والتزمل: الالتفاف في الثياب بضم وتشمير، ومنه قول امرئ القيس:


كأن أبانا في أفانين ودقة ... كبير أناس في بجاد مزمل



وخفض "مزمل" في هذا البيت هو على الجوار، وإنما هو نعت لـ "كبير"، فهو عليه [ ص: 440 ] الصلاة والسلام -على قول هؤلاء- إنما دعي بهيئة في لباسه، وقال قتادة ، كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد فنودي على معنى: يا أيها المستعد للعبادة المتزمل لها، وهذا القول أمدح له صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة : معناه: يا أيها المتزمل للنبوءة وأعبائها، أي: المتشمر المجد، وقال جمهور المفسرين والزهري بما في البخاري من أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فنزلت يا أيها المدثر ، وعلى هذا نزلت يا "أيها المزمل"، وفي مصحف ابن مسعود ، وأبي بن كعب : [يا أيها المزمل] بفتح الزاي وتخفيفها وفتح الميم وشدها، والمعنى: الذي زمله أهله أو زمل للنبوة، وقرأ عكرمة : "يا أيها المزمل" بكسر الميم وشدها وتخفيف الزاي، أي: المزمل نفسه.

واختلف الناس في هذا الأمر بقيام الليل كيف كان؟ فقال جمهور أهل العلم: هو أمر على جهة الندب قد كان لم يفرض قط، ويؤيد هذا الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة في رمضان خلف حصير الحجرة، فصلى وصلى بصلاته ناس، ثم كثروا من الليلة القابلة، ثم غص المسجد بهم في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصبوا بابه فخرج مغضبا وقال: "إني إنما تركت الخروج لأني خفت أن تفرض عليكم"، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكلمهم إلا بعد أصبح وقال آخرون: كان فرضا في وقت نزول هذه الآية، واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وبقي كذلك حتى توفي صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل نسخ عنه ولم يمت إلا والقيام تطوع، وقال بعضهم: كان فرضا على الجميع، ودام الأمر- على ما قال [ ص: 441 ] سعيد بن جبير - عشر سنين، وقالت عائشة ، وابن عباس رضي الله عنهما: دام عاما، وروي عنها أيضا أنه دام ثمانية أشهر ثم رحمهم الله تعالى فنزلت: إن ربك يعلم أنك تقوم فخفف عنهم، وقال قتادة : بقي عاما أو عامين. وقرأ أبو السمال: "قم الليل" بضم الميم لاجتماع الساكنين، والكسر في كلام العرب أكثر كما قرأ الناس.

وقوله تعالى: "نصفه" يحتمل أن يكون بدلا من قوله سبحانه: "قليلا"، ويحتمل أن يكون بدلا من "الليل"، وكيف تقلب المعنى فإنه أمر بقيام نصف الليل أو أكثر شيئا أو أقل شيئا. فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثلثين، والأقل لا ينقص عن الثلث، ويقوي هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في بيت ميمونة رضي الله عنها، قال: فلما انتصف الليل أو قبله بقليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويلزم على هذا البدل الذي ذكرناه أن يكون الليل قد وقع عليه الوصف بـ "قليل"، وقد يحتمل عندي قوله تعالى: "إلا قليلا" أن يكون استثناء من القيام، فيجعل الليل اسم جنس، ثم قوله تعالى: "إلا قليلا"، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر ونحوه، وهذا النظر يحسن مع الندب جدا، وقد تكلم الجرجاني في نظمه في هذه الآية بتطويل وتدقيق غير مفيد، أكثره غير صحيح، وقرأ الجمهور: "أو انقص" بضم الواو، وقرأ الحسن، وعاصم ، وحمزة بكسر الواو، وقرأ عيسى بالوجهين، والضميران في "منه", "عليه" عائدان على "النصف".

وقوله تعالى: "ورتل" معناه في اللغة: تمهل وفرق بين الحروف لتبين، والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني، وبذلك يرق القلب ويفيض عليه النور والرحمة، قال ابن كيسان : المراد تفهمه تاليا له، ومنه: "الثغر الرتل" أى الذي بينه فسخ وفتوح، وروي أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بينة مترسلة، لو شاء أحد أن يعد الحروف لعدها.

[ ص: 442 ] و"القول الثقيل" هو القرآن، واختلف الناس، لم سماه ثقيلا؟ فقالت جماعة من المفسرين: لما كان يحل في رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل الجسم حتى أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به، وحتى كادت فخذه أن ترض فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال أبو العالية والقرطبي: بل سماه ثقيلا لثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده ونحو ذلك، وقال حذاق العلماء: معناه: ثقيل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ونحوه ومزاولة الأعمال الصالحة دائما، قال الحسن: "إن الهذ خفيف ولكن العمل ثقيل".

وقوله تعالى: إن ناشئة الليل ، قال ابن جبير وابن زيد : هي لفظة حبشية، نشأ الرجل إذا قام من الليل، فـ "ناشئة" -على هذا- جمع "ناشئ" أي: قائم، و"أشد وطئا" معناه: ثبوتا واستقلالا بالقيام، "وأقوم قيلا" أي بخلو أفكارهم وإقبالهم على ما يقرءونه، وقال ابن عباس وأنس بن مالك ، وعلي بن الحسين : ناشئة الليل ما بين المغرب والعشاء، وقالت عائشة ، ومجاهد : الناشئة القيام بعد النوم، ومن قام أول الليل قبل النوم فلم يقم ناشئة الليل، وقال ابن جبير ، وابن زيد ، وجماعة: ناشئة الليل ساعاته كلها، لأنها تنشأ شيئا بعد شيء، وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وأبو مجلز، والحسن : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة الليل وما كان قبلها فليس بناشئة، قال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل فهي أشد وطئا، أي: أجدر أن تخصوا ما فرض الله عليكم من القيام; لأن الإنسان متى نام لم يدر متى يستيقظ، وقال الكسائي : ناشئة الليل أوله، وقال ابن عباس ، وابن الزبير أيضا: الليل كله ناشئة، و"أشد وطئا" -على هذا- يحتمل أن يكون: أشد ثبوتا، فيكون نسب الثبوت إليها من حيث هو للقائم فيها، ويحتمل أن يريد أنها صعبة القيام لمنعها النوم، كما قال "اللهم اشدد وطأتك على مضر"، فذكرها تعالى بالصعوبة ليعلم عظم الأجر فيها، كما وعد عليه الصلاة [ ص: 443 ] والسلام على الوضوء على المكاره والمشي في الظلام إلى المساجد ونحوه، وقرأ الجمهور: "وطئا" بفتح الواو وسكون الطاء، وقرأ أبو عمرو ، ومجاهد ، وابن الزبير ، وابن عباس : "وطاء" على وزن فعال، والمعنى: موافقة; لأنه يخلو البال من أشغال النهار يوافق قلب المرء لسانه وفكره عبارته، فهذه مواطأة صحيحة، وبهذا المعنى فسر اللفظ مجاهد وغيره، وقرأ قتادة -في رواية حسين -: "وطاء" بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة، وقرأ أنس بن مالك "وأصوب قيلا" ، فقيل له: إنما هو "أقوم" فقال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد.

قوله تعالى: إن لك في النهار سبحا طويلا أي تصرفا وترددا في أمورك كما يتردد السابح في الماء، ومنه سمي الفرس سابحا لتثنيه واضطرابه، وقال قوم من أهل العلم: إنما معنى الآية التنبيه على أنه إن فات حزب الليل بنوم أو عذر فليخلف بالنهار; فإن فيه سبحا طويلا. وقرأ يحيى بن يعمر : "سبخا طويلا" بالخاء المعجمة، ومعناه: خفة لك من التكاليف، والتسبيخ: التخفيف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في السارق الذي سرقها، فكانت تدعو عليه: "لا تسبخي عنه"، فمعناه: لا تخففي عنه. قال أبو حاتم : فسر يحيى السبخ بالنوم.

وقال سهل: واذكر اسم ربك يراد به: بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك. و"تبتل" معناه: انقطع من كل شيء إلا منه، وافرغ إليه، قال زيد بن أسلم : التبتل" رفض الدنيا، ومنه: تبتل الحبل، وقولهم في المطلقة: بتلة، ومنه البتول، و"تبتيلا" مصدر على غير الصدر.

[ ص: 444 ] وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وعاصم -في رواية أبي بكر - "رب المشرق والمغرب" بالخفض على البدل من "ربك"، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم : "رب المشرق والمغرب" بالرفع على القطع، أي: هو رب، أو على الابتداء والخبر "لا إله إلا هو" وقرأ ابن عباس ، وأصحاب عبد الله : "رب المشارق والمغارب" بالجمع، و"الوكيل": القائم بالأمور الذي توكل إليه الأشياء،.

قوله تعالى: واصبر على ما يقولون الآية، قيل: هي موادعة منسوخة بآية السيف، والمراد بالآية قريش. وقال بعض العلماء: قوله واهجرهم هجرا جميلا منسوخ، وأما الصبر على ما يقولون فقد يتوجه أحيانا ويبقى حكمه فيما يتوجه من الهجر الجميل من المسلمين، قال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم، والقول الأول أظهر; لأن الآية إنما هي في كفر قريش وردهم رسالته وإعلامهم بذلك، ولا يمكن أن يكون الحكم في هذا المقام باقيا.

التالي السابق


الخدمات العلمية