صفحة جزء
[ ص: 525 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النازعات

وهي مكية بإجماع من المتأولين.

قوله عز وجل:

والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة

قال ابن مسعود وابن عباس : "النازعات": الملائكة تنزع نفوس بني آدم، و"غرقا" -على هذا القول- إما أن يكون مصدرا بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل، وإما أن يكون كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم: تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم، وقال السدي وجماعة: النازعات: النفوس تنزع بالموت إلى ربها، و"غرقا" هنا بمعنى الإغراق أي تغرق في الصدور، وقال عطاء -فيما روي عنه-: النازعات: الجماعات النازعات بالقسي، و"غرقا" بمعنى الإغراق، وقال الحسن، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وابن كيسان ، والأخفش : النازعات: النجوم لأنها تنزع من أفق إلى أفق، وقال قتادة : النازعات: النفوس التي تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها، ولها نزاع عند الموت، وقال مجاهد : النازعات: المنايا لأنها تنزع نفوس الحيوان، وقال عطاء وعكرمة : النازعات: القسي أنفسها لأنها تنزع بالسهام.

واختلف في "الناشطات" ، فقال ابن عباس ومجاهد : هي الملائكة لأنها تنشط النفوس عند الموت، أي تحلها كحل العقال، وتنشط بأمر الله تعالى إلى حيث كان، وقال مجاهد : الناشطات: المنايا، وقال ابن عباس أيضا وقتادة ، والأخفش ، والحسن : الناشطات: النجوم لأنها تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب وتسير بسرعة، [ ص: 526 ] ومن ذلك قيل لبقر الوحش: النواشط; لأنهن يذهبن بسرعة من موضع إلى آخر، وقال عطاء : الناشطات في الآية: البقرة الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا



وكأن هذه اللفظة في هذا التأويل مأخوذة من النشاط، وقال عطاء أيضا وعكرمة : الناشطات الأوهان، تقول: نشطت البعير والإنسان إذا ربطته، وأنشطته: إذا حللته، حكاه الفراء وخولف فيه، ومنه الحديث "كأنما أنشط من عقال"، وقال ابن عباس أيضا: الناشطات: النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج.

والسبح: العوم في الماء، وقد يستعمل مجازا في خرق الهواء والتقلب فيه، واختلف في "السابحات" في الآية، فقال قتادة والحسن : هي النجوم لأنها تسبح في فلك، وقال علي ومجاهد رضي الله عنهما: هي الملائكة لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله تعالى، تجيء وتذهب، وقال أبو روق :السابحات: الشمس والقمر والليل والنهار، وقال بعض المتأولين: السابحات: السحاب لأنها كالعائمة في الهواء، وقال عطاء وجماعة: السابحات: الخيل، ويقال للفرس: سابح، وقال آخرون السابحات: الحيتان دواب البحر فما دونها، وذلك من عظيم المخلوقات، فيروى أن الله تعالى بث في الدنيا ألف نوع من الحيوان، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر، وقال عطاء أيضا: السابحات: السفن، وقال مجاهد أيضا: السابحات: المنايا تسبح في نفوس الحيوان.

واختلف الناس في "السابقات"، فقال مجاهد : هي الملائكة، وقيل: الرياح، وقال عطاء : هي الخيل، وقيل: النجوم، وقيل: المنايا تسبق الآمال، وقال الشاعر: [ ص: 527 ]

لا أرى الموت يسبق الموت شيء



وأما "المدبرات" فلا أحفظ خلافا أنها الملائكة، ومعناها أنها تدبر الأمور التي يسخرها الله تعالى وصرفها فيها كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات.

قال ابن زيد : "الراجفة": الأرض بأهلها، تهتز بنفخة الصور الأولى، وقيل الراجفة النفخة نفسها، و"الرادفة" النفخة الأخرى، ويروى أن بينهما أربعين سنة، وقال عطاء : الراجفة القيامة، والرادفة البعث، وقال ابن زيد : "الراجفة الموت، والرادفة الساعة، وقال أبي بن كعب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه".

ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف ذلك اليوم، أي ترتعد خوفا وفرقا من العذاب، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق، ومنه قول الشاعر قيس بن الخطيم:


إن بني جحجبى وأسرتهم     أكبادنا من ورائهم تجف



ورفع "قلوب" بالابتداء، وجاز ذلك وهو نكرة لأنها قد تخصصت بقوله تعالى: "يومئذ".

[ ص: 528 ] واختلف الناس في جواب القسم، أي هو؟ فقال الفراء والزجاج : هو محذوف دل الظاهر عليه، تقديره: لتبعثن أو لتعاقبن يوم القيامة، وقال بعض النحاة: هو في قوله تعالى: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ، وهذا ضعيف لبعد القول، ولأن المعنى هنالك يستحق "أن"، وقال آخرون: هو في قوله تعالى: "يوم" على تقدير حذف اللام، كأنه تعالى قال: ليوم، وقال آخرون: هو موجود في جملة قوله تعالى: يوم ترجف الراجفة .... قلوب يومئذ واجفة ، كأنه تعالى قال: لتجفن قلوب يوم كذا، ولما دلت القلوب على أصحابها ذكر بعد ذلك أبصارها وخشوعها، ذلها وما يظهر منها من الهم بالحال.

وقوله تعالى: "يقولون" هي حكاية حالهم في الدنيا، معناه: هم الذين يقولون، وقولهم: "أئنا" هو على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن يعمر : "أئنا" بهمزتين ومدة، على الاستفهام، وقرأ جمهور القراء: "آئنا" بهمزتين ومدة، على الاستفهام، وقرأ جمهور القراء: "أينا" باستفهام وهمزة واحدة.

و"الحافرة" لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع إليه من آخره، يقال: عاد فلان في الحافرة إذا ارتكس في حال من الأحوال، ومنه قول الشاعر:


أحافرة على صلع وشيب؟     معاذ الله من سفه وعار



والمعنى: أئنا لمردودون: إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت، وقال مجاهد والخليل : الحافرة الأرض، فاعلة بمعنى مفعولة، وقيل: بل هو على النسب، أي ذات حفر، والمراد القبور لأنها حفرت للموتى، فالمعنى: أئنا لمردودون أحياء في قبورنا؟ وقال زيد بن أسلم : الحافرة النار، وقرأ أبو حيوة: "في الحفرة" بغير ألف، فقيل: هو بمعنى الحافرة، وقيل: هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه إذا تأكلت وتغير ريحها.

و"الناخرة": المصوتة بالريح المجوفة، ومنه قول الشاعر: [ ص: 529 ]


وأخليتها من مخها فكأنها     قوارير في أجوافها الريح تنخر



ويروى: تصفر. و"ناخرة" هي قراءة حمزة ، وعاصم ، في رواية أبي بكر - وعمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومسروق ، ومجاهد ، وجماعة سواهم، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والحسن ، والأعرج ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عبد الرحمن ، وابن جبير ، وأهل مكة، وشبل، وقتادة ، وأيوب، والنخعي ، وابن وثاب : "نخرة" دون ألف بعد النون، ومعناه: بالية متعفنة قد صارت رميما، يقال: نخر العود والعظم إذا بلي وصار يتفتت، وحكي عن أبي عبيدة ، وأبي حاتم، والفراء ، وغيرهم أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد، كطامع وطمع، وحاذر وحذر، والأكثر من الناس على ما قدمناه،قال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة التي لم تنخر بعد، والنخرة التي قد بليت.

التالي السابق


الخدمات العلمية