صفحة جزء
[ ص: 562 ] قوله عز وجل:

كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون

لما ذكر تعالى أمر كتاب الفجار عقب ذلك بذكر كتاب ضدهم ليبين الفرق، و"الأبرار" جمع بر، وقرأ ابن عامر "الأبرار" بكسر الراء، وقرأ ابن كثير ، ونافع بفتحها، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بإمالتها. و"عليون" هو جمع عليي، على وزن فعيل بناء مبالغة، يريد بذلك الملائكة فلذلك أعرب بالواو والنون، وقيل: يريد المواضع العلية لأنه علو فوق علو، فلما كان هذا الاسم على هذا الوزن لا واحد له أشبه "عشرين" فأعرب إعراب الجموع إذ أشبهها، وهو أيضا مثل "قنسرين"، فإنك تقول: طابت قنسرين ودخلت قنسرين.

واختلف الناس في الموضع المعروف بعليين، ما هو؟ فقال قتادة : قائمة العرش اليمنى، وقال ابن عباس : السماء السابعة تحت العرش، وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام وقال الضحاك : هو عند سدرة المنتهى، وقال ابن عباس : العليون: الجنة، وقال مكي : وقيل هو في السماء الرابعة، وقال الفراء عن بعض العلماء: هو في السماء الدنيا، والمعنى أن كتابهم الذي فيه أعمالهم هنالك تهمما بها وترفيعا لها، وأعمال الفجار في سجين في أسفل سافلين; لأنه روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس أن أعمالهم يصعد بها إلى السماء فتأباها، ثم ترد إلى الأرض فتأباها أرض بعد أرض حتى تنتهي في سجين تحت الأرض السابعة. و"كتاب مرقوم" في هذه الآية خبر "إن" والظرف ملغى. و"المقربون" في هذا الموضع الملائكة المقربون عند الله تعالى، [ ص: 563 ] أهل كل سماء، قاله ابن عباس وغيره.

و"الأرائك" جمع أريكة، وهي السرر في الحجال، و"ينظرون" معناه: إلى ما عندهم من النعيم، ويحتمل أن يريد: بعضهم إلى بعض، وقيل -عن النبي صلى الله عليه وسلم-: ينظرون إلى أعدائهم في النار كيف يعذبون.

وقرأ جمهور الناس "تعرف" على مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح التاء وكسر الراء "نضرة" نصبا، وقرأ أبو جعفر ، وابن أبي إسحاق "" وطلحة "" ويعقوب: "تعرف" بضم التاء وفتح الراء، "نضرة" رفعا، وقرأ قوم "يعرف" بالياء لأن تأنيث "النضرة" ليس بحقيقي، و"النضرة": النعمة والرونق، و"الرحيق": للخمر الصافية، ومنه قول حسان :


يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل



ومختوم، يحتمل أن يختم على كؤوسه التي يشرب بها تهمما وتنظيفا، والأظهر أنه مختوم شربه بالرائحة المسكية حسب ما فسره قوله تعالى: "ختامه مسك".

واختلف المفسرون في قوله تعالى: "ختامه مسك"، فقال ابن مسعود وعلقمة معناه: خلطه ومزاجه، فقال ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير : معناه: خاتمته، أى تجد الرائحة عند خاتمته الشرب رائحة المسك، وقال أبو علي : المراد لذاذة المقطع [ ص: 564 ] وذكاء الرائحة مع طيب الطعم، وكذلك هو قوله تعالى: كان مزاجها كافورا وقوله تعالى: "زنجبيلا"، أي تجد في اللسان، وقد قال ابن مقبل:


مما يعتق في الحانوت باطنها     بالفلفل الجون والرمان مختوم



وقال مجاهد معناه: طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا، وهذا إنما يكون في الكؤوس، لأن خمر الآخرة ليست في دنان، إنما هي في أنهار. وقرأ الجمهور: "ختامه"، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والكسائي ، والضحاك ، والنخعي : "خاتمه"، وهذه بينة، المعنى: أنه يراد بها الطبع على الرحيق، وروي عنهم أيضا كسر التاء.

ثم حرض تعالى على الجنة بقوله: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، والتنافس في الشيء المغالاة فيه، وأن يتبعه كل واحد نفسه، فكأن نفسيهما تتباريان فيه، وقيل: هو من قولك: شيء نفيس، فكان هذا يعظمه، ويعظمه الآخر، ويستبقان إليه.

و"المزاج" : الخلط، والضمير عائد على "الرحيق"، واختلف الناس في "تسنيم"، فقال ابن عباس ، وابن مسعود رضي الله عنهم: التسنيم أشرف تراب في الجنة، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة، وهي عين يشربها المقربون صرفا، ويمزج رحيق الأبرار بها، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وأبو صالح ، وغيرهم. وقال مجاهد ما معناه: إن "تسنيما" مصدر من "سنمت" إذا علوت، ومنه السنام، فكأنها عين قد علت على أهل الجنة فهي تنحدر، وقاله مقاتل بن سليمان ، وذهب قوم إلى أن الأبرار والمقربين في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكل من نعم في الجنة، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين، وأن الأبرار هم أصحاب اليمين، وأن المقربين هم السابقون .

[ ص: 565 ] و"عينا" منصوب إما على المدح، وإما أن يعمل فيه "تسنيم" على رأي من رآه مصدرا، أو ينتصب على الحال من "تسنيم"، أو "يسقون"، قاله الأخفش ، وفيه بعد، وقوله تعالى: "يشرب بها" معناه: يشربها، كقول الشاعر :


شربن بماء البحر ثم ترفعت     متى لجج خضر لهن نئيج



ثم ذكر تعالى أن الذين أجرموا بالكفر -أي كسبوه- كانوا في دنياهم يضحكون من المؤمنين، ويستخفون بهم، ويتخذونهم هزوءا. ويروى أن هذه القصة نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين، وروي أنها نزلت بسبب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة معه من المؤمنين مروا بجمع من الكفار في مكة، فضحكوا منهم، واستخفوا بهم عبثا ونقصان عقل، فنزلت الآية في ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية