صفحة جزء
[ ص: 627 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الشمس

وهي مكية.

قوله عز وجل:

والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها

أقسم الله تعالى بالشمس إما على التنبيه منها وإما على تقدير ورب الشمس، و"الضحى" بضم الضاد والقصر: ارتفاع الضوء وكماله، وبهذا فسر مجاهد ، وقال قتادة : هو النهار كله، وقال مقاتل :

ضحاها: حرها، كقوله تعالى في "طه" ولا تضحى ، و"الضحاء" بفتح الضاد والمد: ما فوق ذلك إلى الزوال.

والقمر يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب، تغرب هي ثم يغرب هو، ويتلوها في النصف الآخر بنحو آخر، وهي أن تغرب هي فيطلع هو. وقال الحسن بن أبي الحسن: "تلاها" معناه: تبعها دأبا في كل وقت; لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فهذا اتباع لا يختص بنصف أول من الشهر ولا بآخر، وقاله الفراء أيضا، وقال الزجاج وغيره: "تلاها" معناه: امتلأ واستدار، فكان لها تابعا في المنزلة من الضياء [ ص: 628 ] والقدر; لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر، قال قتادة : وإنما ذلك ليلة البدر تغيب هي فيطلع هو.

و"النهار" في ظاهر هذه السورة والتي بعدها أنه من طلوع الشمس، وكذلك قال الزجاج في كتاب الأنواء وغيره. واليوم من طلوع الفجر، ولا يختلف أن نهايتهما مغيب الشمس، والضمير في جلاها يحتمل أن يعود على الشمس، ويحتمل أن يعود على الأرض وعلى الظلمة، وإن كان لم يجئ لذلك ذكر فالمعنى يقتضيه، قاله الزجاج ، وجلى معناه: كشف وضوأ، والفاعل لـ"جلى"-على هذه التأويلات- النهار، ويحتمل أن يكون الفاعل الله تعالى، كأنه قال: والنهار إذا جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته. و يغشى معناه: يغطي، والضمير للشمس على تجوز في المعنى أو للأرض.

وقوله تعالى: وما بناها وكل ما بعده من نظائره في السورة، يحتمل أن تكون "ما" فيه بمعنى "الذي" قال أبو عبيدة ، أي: ومن بناها، وهو قول الحسن ومجاهد ; لأن "ما" تقع عامة لمن يعقل ولما لا يعقل، فيجيء القسم بنفسه تعالى، ويحتمل أن تكون "ما" في جميع ذلك مصدرية، قاله قتادة ، والمبرد ، والزجاج ، كأنه تعالى قال: والسماء وبنيانها.

و "طحا" بمعنى "دحا" و"طحا" أيضا في اللغة بمعنى: ذهب كل مذهب، ومنه قول علقمة بن عبدة:


طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عمر حان مشيب



و"النفس" التي أقسم بها اسم الجنس، و"تسويتها" إكمال عقلها ونظرها، ولذلك ربط الكلام بقوله تعالى: فألهمها فجورها ... الآية، فالفاء تعطي أن التسوية هي هذا الإلهام، ومعنى قوله تعالى: فألهمها فجورها أي عرفها طرق ذلك وجعل لها [ ص: 629 ] قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى، وجواب القسم في قوله تعالى: قد أفلح ، والتقدير: لقد أفلح، والفاعل بـ "زكى" يحتمل أن يكون الله تعالى، وقاله ابن عباس وغيره كأنه تعالى قال: قد أفلحت الفرقة أو الطائفة التي زكاها الله تعالى، و"من": تقع على جمع وإفراد، ويحتمل أن يكون الفاعل بـ "زكى" الإنسان وعليه تقع من، وقاله الحسن وغيره، كأنه تعالى قال: قد أفلح من زكى نفسه، أي اكتسب الزكاة الذي التى قد خلقها الله تعالى له، و زكاها معناه: طهرها ونماها بالخيرات، و دساها معناه: أخفاها وحقرها، أي احتقر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب، يقال دسا يدسو، ودسى -بشد السين- يدسي، وأصله دسس، ومنه قول الشاعر:


ودسست عمرا في التراب فأصبحت ...     حلائله يبكين للفقد ضعفا



ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" ، وهذا الحديث يقوي أن المزكي هو الله تعالى، وقال ثعلب: معنى الآية: وقد خاب من دساها في أهل الخير بالرياء وليس منهم في حقيقته.

ولما ذكر تعالى صفة من دسى، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم وينتهي عن مثل فعلهم، و"الطغوى" مصدر، وقرأ الحسن، وحماد بن سليمان "بطغواها" بضم الطاء، مصدر كالعقبى والرجعى، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "الطغوى" هنا العذاب، [ ص: 630 ] كذبوا به حتى نزل بهم، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ، وقال جمهور المتأولين الباء سببية، والمعنى كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها وكفرها، و"انبعث" عبارة عن خروجه إلى عقر الناقة بنشاط وحرص، و"أشقاها" هو قدار بن سالف وهو أحد التسعة الرهط المفسدين، ويحتمل أن يقع أشقاها على جماعة حاولت العقر، ويروى أنه لم يفعل فعله بالناقة حتى مالأه علي ذلك جميع الحي، فلذلك قال تعالى: فعقروها لكونهم متفقين على ذلك.

و"رسول الله" صالح عليه السلام، وقوله تعالى: ناقة الله وسقياها نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا أو احذروا على معنى: احذروا الإخلال بحق ذلك، وقد تقدم أمر الناقة والسقيا في غير هذه السورة بما أغنى عن إعادتها، وقدم تعالى التكذيب على العقر لأنه كان سبب العقر، ويروى أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحا عليه السلام مدة ثم كذبوا وعثروا، والجمهور من المفسرين على أنهم كانوا على كفرهم. و"دمدم" معناه: أنزل العقاب مقلقا لهم مكررا ذلك وهي الدمدمة، وفي بعض المصاحف "فدهدم" وهي قراءة ابن الزبير بالهاء بين الدالين، وفي بعضها "فدمر" ، وفي مصحف ابن مسعود "فدمدمها عليهم" ، وقوله تعالى: "بذنبهم" أي بسبب ذنبهم، وقوله تعالى: "فسواها"، معناه: فسوى القبيلة في الهلاك لم ينج منهم أحد.

وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأهل الحجاز وأبي بن كعب : "فلا يخاف" بالفاء وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون "ولا يخاف" بالواو وكذلك في مصاحفهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: "ولم يخف عقباها"، والفاعل بـ "يخاف" على من قرأ "فلا يخاف" بالفاء يحتمل أن يكون الله تعالى، والمعنى فلا درك على الله تعالى في فعله بهم لا يسأل عما يفعل، وهذا قول ابن عباس والحسن ، وفي هذا المعنى احتقار للقوم وتعفية لأثرهم، ويحتمل أن يكون صالحا عليه السلام، أي لا يخاف عقبى الله بهذه الفعلة بهم; إذ كان قد أنذرهم وحذرهم، [ ص: 631 ] ومن قرأ "ولا يخاف" بالواو فيحتمل الوجهين اللذين ذكرنا، ويحتمل زائدا أن يكون الفاعل بـ "يخاف" أشقاها المنبعث، قاله الزجاج وأبو علي ، وهو قول السدي والضحاك ومقاتل ، وتكون الواو واو الحال، كأنه تعالى قال: انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه، و"العقبى": جزاء الشيء وخاتمته وما يجيء من الأمور بعقبه.

واختلف القراء في ألفات هذه السورة واللتين بعدها، ففتحها ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وقرأ الكسائي ذلك كله بالاضجاع، وقرأ نافع الكل بين الفتح والإمالة، وقرأ حمزة : "وضحاها" مكسورة و"تلاها" و"طحاها" مفتوحتين، وكسر ما عدا ذلك، واختلف عن أبي عمرو ، فمرة كسر الجميع، ومرة كقراءة نافع ، قال الزجاج : سمى الناس الإمالة كسرا وليس بكسر صحيح، والخليل وأبو عمرو يقولان: إمالة.

كمل تفسير سورة [الشمس] والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية