صفحة جزء
[ ص: 632 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الليل

وهي مكية في قول الجمهور، وقال المهدوي وقيل هي مدنية وقيل فيها مدني وعددها عشرون آية بإجماع.

قوله عز وجل:

والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى

أقسم الله بالليل إذا غشى الأرض وجميع ما فيها، وبالنهار إذا تجلى أي ظهر وضوى الآفاق، ومنه قول الشاعر:


تجلى السرى من وجهه عن صبيحة على السير مشراق كريم شجونها



وقوله تعالى: وما خلق الذكر والأنثى يحتمل أن تكون "ما" بمعنى "الذي" كما قالت العرب: "سبحان ما سبح الرعد بحمده"، وقال أبو عمرو وأهل مكة: يقولون للرعد: [ ص: 633 ] "سبحان ما سبحت له"، ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية، وهو مذهب الزجاج . وقرأ جمهور الصحابة: "وما خلق الذكر"، وقرأ علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو الدرداء ، وسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم- وعلقمة ، وأصحاب عبد الله : "والذكر والأنثى"، وسقط عندهم "وما خلق"، وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ "وما خلق الذكر والأنثى" بخفض "الذكر" على البدل من "ما" على أن التقدير: وما خلق الله وقراءة علي رضي الله عنه : "ومن ذكر" تشهد لهذه، وقال الحسن: المراد هنا بالذكر والأنثى آدم وحواء عليهما السلام، وقال غيره: هو عام.

و"السعي": العمل، فأخبر تعالى مقسما أن أعمال العباد شتى، أي مفترقة جدا، بعضها في رضى الله تعالى وبعضها في سخطه. ثم قسم تعالى الساعين، فذكر أن من أعطى -وظاهر ذلك إعطاء المال، وهي أيضا تتناول إعطاء الحق في كل شيء، قول أو فعل، وكذلك البخل المذكور بعد، يكون بالإيمان وغيره من الأقوال التي حق الشريعة أن لا يبخل بها.

ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه كان يعتق ضعفة العبيد الذين أسلموا، وكان ينفق في رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وكان الكفار بضد [ ص: 634 ] ذلك، وهذا قول من قال إن السورة كلها مكية، قال عبد الله بن أبي أوفى : هذه السورة في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبي سفيان بن حرب ، وقال مقاتل : مر أبو بكر رضي الله عنه على أبي سفيان وهو يعذب بلالا ، فاشتراه منه، وقال السدي : نزلت هذه الآية بسبب أبي الدحداح الأنصاري رضي الله عنه، وذلك أن نخلة لبعض المنافقين كانت مطلة على دار امرأة من المسلمين لها أيتام، فكان الثمر يسقط عليهم فيأكلونه فمنعهم المنافق من ذلك، واشتد عليهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعنيها بنخلة في الجنة، فقال: لا أفعل، فبلغ ذلك أبا الدحداح ، فذهب إليه واشترى منه النخلة بحائط له، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا أشتري النخلة في الجنة بهذه، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على الحائط الذي أعطى أبو الدحداح ، وقد تعلقت أقناؤه ويقول: "وكم قنو تعلق لأبي الدحداح في الجنة، وفي البخاري أن هذا اللفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الأقناء التي كان أبو الدحداح يعلقها في المسجد صدقة، وهذا كله قول من يقول: بعض السورة مدني.

واختلف الناس في "الحسنى" في هذه السورة- فقال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره: هي لا إله إلا الله، وقال ابن عباس ، وعكرمة ، وجماعة: هي الخلف الذي وعد الله تعالى به، وذلك نص في حديث الملكين، إذ يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا. وقال مجاهد ، والحسن ، وجماعة: [ ص: 635 ] الحسنى : الجنة، وقال كثير من المتأولين: الحسنى: الأجر والثواب مجملا.

وقوله تعالى: فسنيسره لليسرى معناه: سيظهر تيسيرنا بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وختم تيسيره قد كان في علم الله تعالى أزلا، و"اليسرى" : الحال الحسنة المرضية في الدنيا والآخرة، و"العسرى" الحال السيئة في الدنيا والآخرة ولا بد ومن جعل "بخل" في المال خاصة جعل "استغنى" في المال أيضا لتعظم المذمة، ومن جعل "بخل" عاما في جميع ما ينبغي أن نبذل من قول وفعل قال: "استغنى" عن الله تعالى ورحمته بزعمه. ثم وقف تعالى على موضع غناء ماله عنه وقت ترديه، وهذا يدل على أن الإعطاء والبخل المذكورين إنما هما في المال.

واختلف الناس في معنى "تردى"- فقال قتادة وأبو صالح : معناه: تردى في جهنم، أي سقط من حافاتها، وقال مجاهد : "تردى" معناه: هلك من الردى، وقال قوم: معناه: تردى بأكفانه من الرداء، ومنه قول مالك بن الريب:


وخطا بأطراف الأسنة مضجعي     وردا على عيني فضل ردائيا



ومنه قول الآخر:


نصيبك مما تجمع الدهر كله     رداءان تلوى فيهما وحنوط



ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا، أي تعريفهم بالسبل كلها، ومنحهم الإدراك، كما قال تعالى: وعلى الله قصد السبيل ، ثم كل أحد بعد ذلك يتكسب ما قدر له، وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان، ولو كان كذلك لم يوجد كافر. ثم [ ص: 636 ] أخبر تعالى أن الآخرة والأولى أي الدارين.

وقوله تعالى: فأنذرتكم نارا تلظى إما مخاطبة منه سبحانه، وإما على معنى: قل لهم يا محمد، وقرأ جمهور السبعة: "تلظى" بتخفيف التاء، وقرأ البزي عن ابن كثير بشد التاء وإدغام الراء فيها، وقرأها كذلك عبيد بن عمير ، وروي عنه أيضا "تتلظى" بتاءين، وكذلك قرأ ابن الزبير وطلحة .

وقوله تعالى: لا يصلاها إلا الأشقى ، أي: لا يصلاها صلي خلود، ومن هنا ضلت المرجئة لأنها أخذت نفي الصلي مطلقا في قليله وكثيره. و"الأشقى" هنا-: الكافر; بدليل قوله تعالى: "الذي كذب"، والعرب تجعل "أفعل" في موضع "فاعل" مبالغة، كما قال طرفة:


تمنى رجال أن أموت وإن أمت     فتلك سبيل لست فيها بأوحد



[ ص: 637 ] ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بـ "الأتقى" إلى آخر السورة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات. وقوله تعالى: "يتزكى" معناه: يتطهر ويتنمى، وظاهر هذا الإتيان أنه في المندوبات، وقوله تعالى: وما لأحد عنده الآية...معناه: وليس إعطاؤه ليجزي نعما قد أنزلت إليه، بل هو مبتدئ ابتغاء وجه الله تعالى.

وروي في سبب هذا أن قريشا قالوا -لما أعتق أبو بكر رضي الله عنه بلالا - كانت لبلال يد عنده، وذهب الطبري إلى أن المعنى: وليس يعطي ليثاب نعما يجزي بها يوما وينتظر ثوابها، وحوم في هذا المعنى وحلق بتطويل غير مغن، ويتجه المعنى الذي أراد بأيسر من قوله، وذلك أن التقدير: وما لأحد عنده إعطاء ليقع عليه من ذلك الأحد جزاء بعد، هو لمجرد ثواب الله تعالى وجزائه.

وقوله تعالى: "إلا ابتغاء" نصب بالاستثناء المنقطع، وفيه نظر، والابتغاء: الطلب، ثم وعده تعالى بالرضا في الآخرة، وهذه عدة لأبي بكر رضي الله عنه. وقرأ "يرضى" بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وهذه الآية تشبه الرضا في قوله تعالى: ارجعي إلى ربك راضية مرضية الآية.

كمل تفسير سورة [الليل] والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية