صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين

هذا أمر من الله - عز وجل - لنبيه - عليه الصلاة والسلام -؛ بالإعلان بشريعته؛ ونبذ ما سواها من أضاليلهم؛ ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن؛ والفضل؛ والاستقامة؛ و"هداني"؛ معناه: أرشدني بخلق الهدى في قلبي؛ و"الرب": المالك؛ ولفظه مصدر؛ من قولك: "ربه؛ يربه"؛ وإنما هو مثل "عدل"؛ و"رضا"؛ في أنه مصدر وصف به؛ وأصله: "ذو الرب"؛ ثم حذف المضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقامه؛ فقيل: "الرب".

و"الصراط": الطريق؛ و"دينا"؛ منصوب بـ "هداني"؛ المقدر الذي يدل عليه "هداني"؛ الأول؛ وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار "إلى"؛ إذ "هدى"؛ يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني؛ وبحرف الجر؛ فهو فعل متردد؛ وقيل: نصب "دينا"؛ فعل مضمر؛ تقديره: "عرفني دينا"؛ وقيل: تقديره: "فاتبعوا دينا"؛ أو: "فالزموا دينا"؛ وقيل: نصب على البدل من "صراط"؛ على الموضع؛ لأن تقديره: "هداني ربي صراطا مستقيما"؛ و"قيما"؛ نعت للدين؛ ومعناه: "مستقيما معتدلا".

[ ص: 505 ] وقرأ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وأبو عمرو : "قيما"؛ بفتح القاف؛ وكسر الياء؛ وشدها؛ وأصله: "قيوما"؛ عللت كتعليل "سيد"؛ و"ميت"؛ وقرأ عاصم ؛ وابن عامر ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "قيما"؛ بكسر القاف؛ وفتح الياء؛ على وزن "فعلا"؛ وكأن الأصل أن يجيء فيه: "قوما"؛ كـ "عوض"؛ و"حول"؛ إلا أنه شذ كشذوذ قولهم: "جياد"؛ في جمع "جواد"؛ و"ثيرة"؛ في جمع "ثور".

و"ملة"؛ بدل من الدين؛ و"الملة": الشريعة؛ و"حنيفا"؛ نصب على الحال من "إبراهيم"؛ و"الحنف"؛ في كلام العرب: الميل؛ وقد يكون الميل إلى فساد؛ كـ "حنف الرجل"؛ وكقوله تعالى "فمن خاف من موص جنفا"؛ على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة؛ ونحو ذلك؛ وقد يكون الحنف إلى الصلاح؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: "الحنيفية السمحة"؛ و"الدين الحنيف"؛ ونحو ذلك؛ وقال ابن قتيبة : الحنف: الاستقامة؛ وإنما سمي " الأحنف "؛ في الرجل؛ على جهة التفاؤل له.

وما كان من المشركين ؛ نفي للنقيصة عنه - صلى اللـه عليه وسلم.

وقوله تعالى قل إن صلاتي ؛ الآية؛ أمر من الله - عز وجل - أن يعلن بأن مقصده في صلاته؛ وطاعته؛ من ذبيحة؛ وغيرها؛ وتصرفه مدة حياته؛ وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته؛ إنما هو لله - عز وجل -؛ وإرادة وجهه؛ وطلب رضاه؛ وفي إعلان النبي - صلى اللـه عليه وسلم - بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به - صلى اللـه عليه وسلم -؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله - عز وجل -؛ ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته؛ ونسكه؛ وحياته؛ وموته؛ بيد الله - عز وجل -؛ يصرفه في جميع ذلك كيف يشاء؛ وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم؛ ويكون قوله تعالى وبذلك أمرت ؛ على هذا التأويل؛ راجعا إلى قوله تعالى لا شريك له ؛ فقط؛ أو راجعا إلى القول الأول؛ وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها؛ أي: أمرت بأن أقصد وجه الله - عز وجل - في ذلك؛ وأن ألتزم العمل.

[ ص: 506 ] وقرأ جمهور الناس: "ونسكي"؛ بضم السين؛ وقرأ أبو حيوة؛ والحسن بإسكان السين؛ وقالت فرقة: النسك: في هذه الآية: الذبائح.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها؛ والجدل فيها؛ في السورة؛ وقالت فرقة: النسك في هذه الآية: جميع أعمال الطاعات؛ من قولك: "نسك فلان؛ فهو ناسك"؛ إذا تعبد.

وقرأ السبعة - سوى نافع -: ومحياي ومماتي ؛ بفتح الياء من "محياي"؛ وسكونها من "ومماتي"؛ وقرأ نافع وحده: "ومحياي"؛ بسكون الياء؛ قال أبو علي الفارسي : وهي شاذة في القياس؛ لأنها جمعت بين ساكنين؛ وشاذة في الاستعمال؛ ووجهها أنه قد سمع من العرب: "التقت حلقتا البطان"؛ و"لفلان ثلثا المال"؛ وروى أبو خليد عن نافع : "ومحياي"؛ بكسر الياء؛ وقرأ ابن أبي إسحاق ؛ وعيسى ؛ والجحدري: "ومحيي"؛ وهذه لغة هذيل؛ ومنه قول أبي ذؤيب :


سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ... فتصرعوا ولكل جنب مصرع



وقرأ عيسى بن عمر : "صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي"؛ بفتح الياء فيهن؛ وروي ذلك عن عاصم .

وقوله تعالى وأنا أول المسلمين ؛ أي: من هذه الأمة؛ وقال النقاش : "من أهل مكة".

[ ص: 507 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والمعنى واحد؛ بل الأول أعم وأحسن؛ وقرأت فرقة: "وأنا"؛ بإشباع الألف؛ وجمهور القراء على القراءة "وأنا"؛ دون إشباع؛ وهذا كله في الوصل.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وترك الإشباع أحسن؛ لأنها ألف وقف؛ فإذا اتصل الكلام استغني عنها؛ لا سيما إذا وليتها همزة.

التالي السابق


الخدمات العلمية