1. الرئيسية
  2. تفسير ابن عطية
  3. مقدمة
  4. باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه
صفحة جزء
[ ص: 25 ] باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه»

اختلف الناس في معنى هذا الحديث، اختلافا شديدا، فذهب فريق من العلماء إلى [ ص: 26 ] أن تلك الحروف السبعة هي فيما يتفق أن يقال على سبعة أوجه فما دونها، كتعال، وأقبل، وإلي، ونحوي، وقصدي، وأقرب، وجيء، وكاللغات التي في (أف)، وكالحروف التي في كتاب الله فيها قراءات كثيرة، وهذا قول ضعيف.

قال ابن شهاب في كتاب مسلم: «بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كلام محتمل.

وقال فريق من العلماء: «إن المراد بالسبعة الأحرف معاني كتاب الله تعالى، وهي: أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال. وهذا أيضا ضعيف؛ لأن هذه لا تسمى أحرفا، وأيضا:

فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال، ولا في تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.

[ ص: 27 ] وحكى صاحب الدلائل عن بعض العلماء، وقد حكى نحوه القاضي أبو بكر بن الطيب، قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة، منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل:

[هن أطهر]، و (أطهر). ومنها ما لا تتغير صورته، ويتغير معناه بالإعراب، مثل: [ربنا باعد] و (باعد). ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل: ننشزها ، و (ننشرها). ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه كقوله:

كالعهن المنفوش [القارعة: 5]، و (كالصوف المنفوش)، ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل: وطلح منضود [الواقعة: 29] و (طلع منضود)، ومنها بالتقديم والتأخير كقوله: وجاءت سكرة الموت بالحق [ق: 19]. و (سكرة الحق بالموت). ومنها بالزيادة والنقصان كقوله: تسع وتسعون نعجة و (أنثى).

[ ص: 28 ] وذكر القاضي أبو بكر بن الطيب في معنى هذه السبعة الأحرف حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، نهي، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وائتمروا، وانتهوا، واعتبروا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه».

قال القاضي أبو محمد: فهذا تفسير منه صلى الله عليه وسلم للأحرف السبعة، ولكن ليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها على اختلافها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف [الحج: 11] أي: على وجه وطريقة، هي ريب وشك، فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق، من تحليل، وتحريم، وغير ذلك.

وذكر القاضي أيضا أن أبيا رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أبي، إني أقرئت القرآن على حرف أو حرفين، ثم زادني الملك حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف وكاف؛ إن قلت: غفور رحيم، سميع عليم، أو عليم حكيم، وكذلك ما لم تختم عذابا برحمة، أو رحمة بعذاب».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وقد أسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه.

قال القاضي ابن الطيب: «وهذه أيضا سبعة غير السبعة التي هي وجوه وطرائق، وغير السبعة التي هي قراءات ووسع فيها، وإنما هي سبعة أوجه من أسماء الله تعالى».

وإذا ثبتت هذه الرواية حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه.

قال القاضي: «وزعم قوم أن كل كلمة تختلف القراءة فيها فإنها على سبعة [ ص: 29 ] أوجه، وإلا بطل معنى الحديث».

قالوا: «وتعرف بعض الوجوه بمجيء الخبر به، ولا يعرف بعضها، إذا لم يأت به خبر».

قال: وقال قوم: ظاهر الحديث يوجب أن يوجد في القرآن كلمة أو كلمتان تقرآن على سبعة أوجه، فإذا حصل ذلك تم معنى الحديث».

قال القاضي أبو بكر بن الطيب: «وقد زعم قوم أن معنى الحديث أنه نزل على سبع لغات مختلفات؛ وهذا باطل إلا أن يريد الوجوه المختلفة التي تستعمل في القصة الواحدة.

والدليل على ذلك أن لغة عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وهشام بن حكيم، وابن مسعود، واحدة، وقراءتهم مختلفة، وخرجوا بها إلى المناكرة.

فأما الأحرف السبعة التي صوب رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة بجميعها - وهي التي راجع فيها فزاده وسهل عليه لعلمه تعالى بما هم عليه من اختلافهم في اللغات -فلها سبعة أوجه، وسبع قراءات مختلفات، وطرائق يقرأ بها على اختلافها في جميع القرآن أو معظمه، حسبما تقتضيه العبارة في قوله: «أنزل القرآن» فإنما يريد به الجميع أو المعظم، فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها، ويدل على ذلك قول الناس: حرف أبي، وحرف ابن مسعود، ونقول في الجملة: إن القرآن منزل على سبعة أحرف من اللغات، والإعراب، وتغيير الأسماء والصور، وإن ذلك [ ص: 30 ] مفترق في كتاب الله ليس بموجود في حرف واحد، وسورة واحدة، يقطع على اجتماع ذلك فيها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: انتهى ما جمعت من كلام القاضي أبي بكر رضي الله عنه، وإطلاقه البطلان على القول الذي حكاه فيه نظر؛ لأن المذهب الصحيح الذي قرره آخرا من قوله:«ونقول في الجملة» إنما صح وترتب من جهة اختلاف لغات العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وهو اختلاف ليس بشديد التباين حتى يجهل بعضهم ما عند بعض في الأكثر، وإنما هو أن قريشا استعملت في عباراتها شيئا، واستعملت هذيل شيئا غيره في ذلك المعنى، وسعد بن بكر غيره، والجميع كلامهم في الجملة ولغتهم.

واستدلال القاضي رضي الله عنه بأن لغة عمر وأبي وهشام وابن مسعود واحدة فيه نظر؛ لأن ما استعملته قريش في عبارتها ومنهم عمر وهشام، وما استعملته الأنصار ومنهم أبي وما استعملته هذيل ومنهم ابن مسعود، قد يختلف، ومن ذلك النحو من الاختلاف هو الاختلاف في كتاب الله سبحانه، فليست لغتهم واحدة في كل شيء، وأيضا فلو كانت لغتهم واحدة بأن نفرضهم جميعا من قبيلة واحدة، لما كان اختلافهم حجة على من قال: إن القرآن أنزل على سبع لغات؛ لأن مناكرتهم لم تكن؛ لأن المنكر سمع ما ليس في لغته فأنكره، وإنما كانت لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم وعساه قد أقرأه ما ليس من لغته واستعمال قبيلته.

فكأن القاضي رحمه الله، إنما أبطل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد في قوله: "على سبعة أحرف" عد اللغات التي تختلف بجملتها وأن تكون سبعا متباينة لسبع قبائل تقرأ كل قبيلة القرآن كله بحرفها ولا تدخل عليها لغة غيرها، بل قصد النبي عليه السلام -عنده- عد الوجوه والطرائق المختلفة في كتاب الله مرة من جهة لغة، ومرة من جهة إعراب، وغير ذلك، ولا مرية أن هذه الوجوه والطرائق إنما اختلفت لاختلاف في العبارات بين الجملة التي نزل القرآن بلسانها؛ وذلك يقال فيه اختلاف لغات.

وصحيح أن يقصد عليه السلام عد الأنحاء والوجوه التي اختلفت في القرآن، بسبب اختلاف عبارات اللغات.

وصحيح أن [ ص: 31 ] يقصد عد الجماهير والرؤوس من الجملة التي نزل القرآن بلسانها، وهي قبائل مضر فجعلها سبعة، وهذا أكثر توسعة للنبي عليه السلام؛ لأن الأنحاء تبقى غير محصورة، فعسى أن الملك أقرأه بأكثر من سبعة طرائق ووجوه.

قال القاضي في كلامه المتقدم: «فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها».

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والشرط الذي يصح به هذا القول هو أن تروى عن النبي عليه السلام، ومال كثير من أهل العلم كأبي عبيد، وغيره، إلى أن معنى الحديث المذكور أنه أنزل على سبع لغات لسبع قبائل انبث فيه من كل لغة منها، وهذا القول هو المتقرر من كلام القاضي رضي الله عنه وقد ذكر بعضهم قبائل من العرب روما منهم أن يعينوا السبع التي يحسن أن تكون مراده عليه السلام، نظروا في ذلك بحسب القطر ومن جاور منشأ النبي عليه السلام. واختلفوا في التسمية وأكثروا، وأنا ألخص الغرض جهدي بحول الله:

فأصل ذلك وقاعدته قريش، ثم بنو سعد بن بكر؛ لأن النبي عليه السلام قرشي، واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم، ثم ترعرع وعقت تمائمه وهو يخالط في اللسان كنانة، وهذيلا، وثقيفا، وخزاعة، وأسدا، وضبة، وألفافها لقربهم من مكة، وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما، وقيسا، ومن انضاف إليهم وسط جزيرة العرب، فلما بعثه الله تعالى ويسر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي التي قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهي اختلافاتها في العبارات حسبما تقدم.

قال ثابت بن قاسم: «لو قلنا من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفافها، ومنها لقيس، لكان قد أتى على قبائل [ ص: 32 ] مضر في مراتب سبعة تستوعي اللغات التي نزل بها القرآن».

قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا نحو ما ذكرناه، وهذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدخيل ويسرها الله لذلك ليظهر آية نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز ونجد وتهامة فلم تطرقها الأمم، فأما اليمن وهي جنوبي الجزيرة فأفسدت كلام عربه خلطة الحبشة والهنود، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد، قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وذلك عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن كالعرم والفتاح. فأما ما انفردوا به (كالزخيخ والقلوب)، ونحوه، فليس في كتاب الله منه شيء.

وأما ما والى العراق من جزيرة العرب، وهي بلاد ربيعة، وشرقي الجزيرة، فأفسدت لغتها مخالطة الفرس، والنبط، ونصارى الحيرة، وغير ذلك.

وأما الذي يلي الشام وهو شمالي الجزيرة وهي بلاد آل جفنة، وابن الرافلة [ ص: 33 ] وغيرهم. فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بني إسرائيل.

وأما غربي الجزيرة فهي جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم وأكثرها غير معمور. فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللغات لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم، ويقوي هذا المنزع أنه لما اتسع نطاق الإسلام وداخلت الأمم العرب وتجرد أهل المصرين: البصرة، والكوفة، لحفظ لسان العرب، وكتب لغتها لم يأخذوا إلا عن هذه القبائل الوسيطة المذكورة، ومن كان معها، وتجنبوا اليمن، والعراق، والشام، فلم يكتب عنهم حرف واحد. وكذلك تجنبوا حواضر الحجاز مكة، والمدينة، والطائف؛ لأن السبي والتجار من الأمم كثروا فيها فأفسدوا اللغة. وكانت هذه الحواضر في مدة النبي صلى الله عليه وسلم سليمة لقلة المخالطة.

فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة. ألا ترى أن (فطر) معناها عند غير قريش (ابتدأ خلق الشيء وعمله) فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما: «أنا فطرتها» قال ابن عباس:

«ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى: فاطر السماوات والأرض [فاطر: 1، الزمر: 46]. وقال أيضا: «ما كنت أدري معنى قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك؛ أي: أحاكمك».

وكذلك قال عمر بن الخطاب، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: أو يأخذهم على تخوف [النحل: 47] فوقف به فتى فقال: «إن أبي يتخوفني حقي» فقال عمر: «الله أكبر، أو يأخذهم على تخوف؛ أي: على تنقص لهم».

وكذلك اتفق لقطبة بن مالك؛ إذ سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في [ ص: 34 ] الصلاة: والنخل باسقات [ق: 10]، ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر، إلى غير هذا من الأمثلة.

فأباح الله تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف، ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: فاقرءوا ما تيسر منه بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه. ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي عليه السلام ليوسع بها على أمته، فقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل صلوات الله عليهما، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا.

وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».

وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة كل منهما -وقد اختلفتا-: هكذا أقرأني جبريل؟ هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة. وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [المزمل: 6]، فقيل له: إنما نقرأ: (وأقوم)، فقال أنس: (أصوب وأقوم وأهيأ واحد). فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قول الله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر: 9].

ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافترق الصحابة في البلدان، وجاء الخلف وقرأ القرآن كثير من غير العرب، وقع بين أهل الشام والعراق ما ذكر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه؛ وذلك أنهم لما اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت [ ص: 35 ] كل طائفة بما روي لها، فاختلفوا وتنازعوا حتى قال بعضهم لبعض: «أنا كافر بما تقرأ به» فأشفق حذيفة مما رأى منهم. فلما قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاري وغيره دخل إلى عثمان بن عفان قبل أن يدخل بيته، فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال: فيما ذا؟ قال: في كتاب الله؛ إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق، ومن الشام، ومن الحجاز، فوصف له ما تقدم وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى، قال عثمان رضي الله عنه: أفعل، فتجرد للأمر، واستناب الكفاة العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفصح اللغات، وقال لهم: «إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش».

فمعنى هذا إذا اختلفتم فيما روي، وإلا فمحال أن يحيلهم على اختلاف من قبلهم؛ لأنه وضع قرآن فكتبوا في القرآن من كل اللغات السبع، مرة من هذه، ومرة من هذه، وذلك مقيد بأن الجميع مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرئ عليه، واستمر الناس على هذا المصحف المتخير وترك ما خرج عنه مما كان كتب سدا [ ص: 36 ] للذريعة وتغليبا لمصلحة الألفة وهي المصاحف التي أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه أن تحرق أو تخرق.

فأما ابن مسعود فأبى أن يزال مصحفه فترك، ولكن أبى العلماء قراءته سدا للذريعة، ولأنه روي أنه كتب فيه أشياء على جهة التفسير فظنها قوم من التلاوة فتخلط الأمر فيه ولم يسقط فيما ترك معنى من معاني القرآن؛ لأن المعنى جزء من الشريعة، وإنما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الذي أثبت.

ثم إن القراء في الأمصار تتبعوا ما روي لهم من اختلافات لا سيما فيما وافق خط المصحف، فقرأوا بذلك حسب اجتهاداتهم، فلذلك ترتب أمر القراء السبعة وغيرهم رحمهم الله ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة وبها يصلى؛ لأنها ثبتت بالإجماع.

وأما شاذ القراءات فلا يصلى به؛ وذلك لأنه لم يجمع الناس عليه. أما أن المروي منه عن الصحابة رضي الله عنهم وعن علماء التابعين لا يعتقد فيه إلا أنهم رووه.

وأما ما يؤثر عن أبي السمال ومن قاربه فلا يوثق به وإنما أذكره في هذا الكتاب لئلا يجهل. والله المستعان.

وكان المصحف غير مشكول ولا منقوط، وقد وقع لبعض الناس خلاف في بعض ما ذكرته في هذا الباب ومنازعات اختصرت ذلك كراهة التطويل، وعولت على الأسلوب الواضح الصحيح، والله المرشد للصواب برحمته.

التالي السابق


الخدمات العلمية