1. الرئيسية
  2. تفسير ابن عطية
  3. تفسير سورة الأنفال
  4. تفسير قوله عز وجل ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير

هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلون فيه بالمعنى، والضمير في "بأنهم" عائد على الذين كفروا، و شاقوا معناه: خالفوا ونابذوا وقطعوا، وهو مأخوذ من الشق وهو القطع والفصل بين شيئين، وهذه مفاعلة، فكأن الله لما شرع شرعا وأمر بأوامر وكذبوا هم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق، مأخوذ من هذا لأنه [ ص: 152 ] مع شقه الآخر تباعدا وانفصلا. وعبر المفسرون عن قوله تعالى: شاقوا أي: صاروا في شق غير شقه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا وإن كان معناه صحيحا فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، والمثال الأول إنما هو الشق بفتح الشين، وأجمعوا على الإظهار في "يشاقق" اتباعا لخط المصحف. وقوله: فإن الله شديد العقاب جواب الشرط تضمن وعيدا وتهديدا.

وقوله تعالى: ذلكم فذوقوه المخاطبة للكفار، أي: ذلكم الضرب والقتل وما أوقع الله بهم يوم بدر، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا فسره سيبويه . وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ذلكم فذوقوه في موضع نصب، كقوله: "زيدا فاضربه". وقرأ جمهور الناس: "وأن" بفتح الألف، فإما على تقدير: "وحتم أن"، فيقدر على ابتداء محذوف يكون "أن" خبره، وإما على تقدير "واعلموا أن" فهي -على هذا- في موضع نصب. وروى سليمان عن الحسن بن أبي الحسن: "وإن" على القطع والاستئناف.

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا الآية. "زحفا" يراد به: متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الألية ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويدا زاحفا، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد: نار الزحفتين. ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر: [ ص: 153 ]


كأنهن بأيدي القوم في كبد ... طير تكشف عن جون مزاحيف



ومنه قول الفرزدق :


على عمائمنا تلقى وأرجلنا ...     على زواحف نزجيها محاسير



ومنه قول الآخر :


لمن الظعائن سيرهن تزحف ...      ..................



ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي :

[ ص: 154 ]

كأن مزاحف الحيات فيه ...     قبيل الصبح آثار السياط



وأمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع أكثر الأمة، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب الله عز وجل، وهذا قول جمهور الأمة، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في "الواضحة": يراعى أيضا الضعف والقوة والعدة، فيجوز -على قولهم- أن يفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك، وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين.

والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة لأنها بشعة على الفار ذامة له، وقرأ الجمهور: "دبره" بضم الباء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "دبره" بسكون الباء.

واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله: "يومئذ" فقالت فرقة: الإشارة إلى يوم بدر وما وليه، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر، ونسخ -بعد ذلك- حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة، وقد فر الناس يوم أحد، فعفا الله عنهم، وقال فيهم يوم حنين: ثم وليتم مدبرين ولم يقع على ذلك تعنيف.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقال الجمهور من الأمة: الإشارة بـ "يومئذ" إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: [ ص: 155 ] إذا لقيتم ، وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم، ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفوا عن كبيرة.



ومتحرفا لقتال

يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر، ونصبه على الحال، وكذلك نصب "متحيزا". وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم "من"، وقال قوم: الاستثناء هو من أنواع التولي.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولو كان كذلك; لوجب أن يكون: "إلا تحرفا وتحيزا".

والفئة هاهنا-: الجماعة من الناس الحاضرة للحرب. هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة، وأما على القول الآخر فتكون "الفئة": المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا، روي هذا القولعن عمر رضي الله عنه، وأنه قال: أنا فئتكم أيها المسلمون.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مرارا، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه: "أنا فئة المسلمين" حين قدموا عليه. وفي صحيح البخاري من [ ص: 156 ] حديث أبي هريرة ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا السبع الموبقات"، وعدد فيها الفرار من الزحف.

و"باء" بمعنى نهض متحملا للثقل المذكور في الكلام غضبا كان أو نحوه، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفة ذات، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية، والمأوى: الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.

التالي السابق


الخدمات العلمية