1. الرئيسية
  2. تفسير ابن عطية
  3. تفسير سورة التوبة
  4. تفسير قوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل
صفحة جزء
[ ص: 300 ] قوله عز وجل:

يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في "ليأكلون" لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي أنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل: كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل: كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقوله تعالى: بالباطل يعم كل ذلك، وقوله: ( يصدون ) الأشبه هنا أن يكون معدى أي: يصدون غيرهم، وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم، و "صد" يستعمل واقفا ومتجاوزا، ومنه قول الشاعر :


صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا



و"سبيل الله": الإسلام وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن يريد: ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح. وقوله: "والذين" ابتداء وخبره "فبشرهم"، ويجوز أن يكون "الذين" معطوفا على الضمير في قوله: [ ص: 301 ] "يأكلون" على نظر في ذلك، لأن الضمير لم يؤكد، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال: لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله: "والذين يكنزون" فأبي ذلك أبي بن كعب وقال: "لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي" فألحقها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية : إن الآية في أهل الكتاب، وخالفه أبو ذر فقال: بل هي فينا، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر بعض الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك مقولة نقص الكانزين المانعين حق المال.

وقرأ طلحة بن مصرف : "الذين يكنزون" بغير واو، و"يكنزون" معناه: يجمعون ويحفظون في الأوعية، ومنه قول المنخل الهذلي :


لا در دري إن أطعمت جائعهم ...     قرف الحتي وعندي البر مكنوز



أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظة المال أن يدفنوه حتى تعورف في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم: "رجل مكتنز الخلق" أي مجتمع، ومنه قول الراجز:

[ ص: 302 ]

على شديد لحمه كناز ...     بات ينزيني على أوفاز



والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، ولذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، وأما المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ما أديت زكاته فليس بكنز" ، وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر رضي الله عنهما، وروي هذا القول عن عكرمة ، والشعبي ، والسدي ، ومالك ، وجمهور أهل العلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته". وقال أبو ذر وجماعة معه: "ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز"، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، ولكن قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: هي منسوخة بقوله: خذ من أموالهم صدقة فأتى فرض الزكاة على هذا كله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

كان مضمن الآية: "لا تجمعوا مالا فتعذبوا" فنسخه التقرير الذي في قوله: خذ من أموالهم . والضمير في قوله: "ينفقونها" يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة إذ هما أنواع، وقيل: عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا أفهمه المعنى، وهذا نحو قول الشاعر :


نحن بما عندنا وأنت بما ...     عندك راض والرأي مختلف



[ ص: 303 ] ونحو قول حسان :


إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ...     ود ما لم يعاص كان جنونا



وسيبويه يكره هذا في الكلام، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ، وهي لا تشبهها لأن "أو" قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر.

والذهب يؤنث وتذكر والتأنيث أشهر، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد ذم الله كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله، فقال: "لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة تعين المؤمن على دينه" . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية: "تبا للذهب تبا للفضة" ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم.

والفاء في قوله: فبشرهم جواب لما في قوله: ( والذين ) من معنى الشرط، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب، وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط، وقيل: بل هي أبدا للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى: أقم لهم البشارة عذابا أليما، وهذا نحو قول الشاعر :

وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع

[ ص: 304 ] وقوله تعالى: يوم يحمى عليها الآية. "يوم" ظرف والعامل فيه "أليم". وقرأ جمهور الناس: "يحمى" بالياء بمعنى: تحمى الوقود، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : "تحمى" بالتاء من فوق بمعنى: تحمى النار، والضمير في "عليها" عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم.

وقرأ قوم "جباهم" بالإدغام وأشموها الضم، حكاه أبو حاتم .

ووردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه، ويؤيد ذلك حال الصحابة وأموالهم رضي الله عنهم، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك بعده كنزا لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع" الحديث. وأسند الطبري قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر ، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها"، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال: "مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية، ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيتان".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه، ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط، وليس في الأمة من يلزم هذا. [ ص: 305 ] وقوله: هذا ما كنزتم إشارة إلى المال الذي يكو ى به، ويحتمل أن يكون إلى الفعل النازل بهم، أي: هذا جزاء ما كنزتم، وقال ابن مسعود : والله لا يمس دينار دينارا، بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم، وقال الأحنف بن قيس : دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكي في جباههم وجنوبهم وظهورهم، ثم انطلق يتذمر وهو يقول: وما عسى تصنع في قريش.

التالي السابق


الخدمات العلمية