صفحة جزء
قوله عز وجل:

لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم

الضمير في بنيانهم عائد على المنافقين البانين للمسجد ومن شاركهم في غرضهم، وقوله: الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع للإشكال، والريبة: الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتخبط فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكا، فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك، ومعنى الريبة -في هذه الآية- أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام، فمقصد الكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء وبالشك فسر ابن عباس رضي الله عنهما الريبة هنا، وفسرها السدي بالكفر، وقيل له: أفكفر مجمع بن جارية؟ قال: لا ولكنها حزازة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر رضي الله عنه أنه ما علم باطن القوم ولا قصد سوءا، والآية إنما عنت من أبطن سوءا، فليس مجمع منهم. ويحتمل أن يكون [ ص: 415 ] المعنى: لا يزالون مريبين بسبب بنائهم الذي اتضح فيه نفاقهم، وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي : "إلا أن تقطع قلوبهم" بضم التاء وبناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم -بخلاف عنه-: "إلا أن تقطع" بفتح التاء على أنها فاعلة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب: "إلى أن تقطع" على معنى: إلى أن يموتوا، وقرأ بعضهم: "إلى أن تقطع" ، وقرأ أبو حيوة "إلا أن يقطع" بالياء مضمومة وكسر الطاء ونصب القلوب، أي: بالقتل، وأما على القراءة الأولى فقيل: بالموت، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم، وقيل: بالتوبة، وليس هذا بالظاهر إلا أن يتأول: أو يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة على الذنب ما يقطع القلوب هما وفكرة، وفي مصحف ابن مسعود : "ولو قطعت قلوبهم"، وكذلك قرأها أصحابه وحكاها أبو عمرو : "وإن قطعت" بتخفيف الطاء، وفي مصحف أبي: "حتى الممات"، وفيه "تقطع" .

وقوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية، هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو ، وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا: اشترط لك ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون به أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة، فقالوا: ما لنا على ذلك؟ قال: الجنة، فقالوا: نعم، ربح البيع لا نقيل ولا نقال، وفي بعض الروايات: ولا نستقيل، فنزلت الآية في ذلك. ثم الآية -بعد ذلك- عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقال بعض العلماء: ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة وفى بها أو لم يف، وفي الحديث: "أن فوق كل بر بر حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك"، وهذا تمثيل من الله عز وجل جميل صنعه بالمبايعة، وذلك أن حقيقة المبايعة أن تقع بين نفسين بقصد منهما وتملك صحيح، وهذه القصة [ ص: 416 ] وهب الله عباده أنفسهم وأموالهم، ثم أمرهم ببذلها في ذاته، ووعدهم على ذلك ما هو خير منها، فهذا غاية التفضل، ثم شبه القصة بالمبايعة، وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا: ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده فأعلى لهم، وقاله ابن عباس ، والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن عيينة : معنى الآية: اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله، وأموالهم ألا ينفقوها إلا في سبيل الله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فالآية -على هذا- أعم من القتل في سبيل الله، ومبايعة الخلفاء هي منتزعة من هذه الآية. كان الناس يعطون الخلفاء طاعتهم ونصائحهم وجدهم، ويعطيهم الخلفاء عدلهم ونظرهم والقيام بأمورهم. وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع الواعظ أبا الفضل بن الجوهري يقول على المنبر بمصر: ناهيك من صفقة البائع فيها رب العلا، والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: يقاتلون في سبيل الله مقطوع ومستأنف، وذلك على تأويل سفيان بن عيينة ، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وغيرهم: "فيقتلون" على البناء للفاعل، "ويقتلون" على البناء للمفعول، وقرأ حمزة ، والكسائي ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش بعكس ذلك، والمعنى واحد إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون فيوجد فيهم من يقتل وفيهم من يقتل، وفيهم من يجتمعان له، وفيهم من لا تقع له واحدة منهما، وليس الغرض أن يجتمع ولا بد لكل واحد واحد، وإذا اعتبر هذا بان.

وقوله سبحانه: وعدا عليه حقا مصدر مؤكد لأن ما تقدم من الآية هو في معنى الوعد فجاء هو مؤكدا لما تقدم من قوله: بأن لهم الجنة . وقال المفسرون: يظهر من قوله سبحانه: في التوراة والإنجيل والقرآن أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه.

[ ص: 417 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويحتمل أن ميعاد أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب.

وقوله تعالى: ومن أوفى بعهده من الله استفهام على جهة التقرير، أي: لا أحد أوفى بعهده من الله، وقوله: فاستبشروا فعل جاء فيه استفعل بمعنى أفعل، وليس هذا من معنى طلب الشيء، كما تقول: استوقد نارا، واستهدى مالا، واستدعى نصرا، بل هو كعجب واستعجب، ثم وصف الله تبارك وتعالى ذلك البيع بأنه الفوز العظيم ، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب.

التالي السابق


الخدمات العلمية