صفحة جزء
قوله عز وجل:

ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

الضمير في قوله: "من بعده" عائد على نوح عليه السلام، والضمير في "قومهم" عائد على الرسل، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، أي: كما حل بهؤلاء يحل بكم، والبينات: المعجزات والبراهين الواضحة، والضمير في قوله: "كانوا" وفي "ليؤمنوا" عائد على قوم الرسل، والضمير في "كانوا" عائد على قوم نوح عليه السلام، وهذا قول بعض المتأولين، وقال بعضهم: بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما [ ص: 508 ] جاء رسول، ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال يحيى بن سلام : "من قبل" معناه: من قبل العذاب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وفي هذا القول بعد، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى: فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل، أي من سببه ومن جزائه. ويؤيد هذا التأويل قوله: كذلك نطبع . وقال بعض العلماء: عقوبة التكذيب الطبع على القلوب. وقرأ جمهور الناس: "نطبع" بالنون، وقرأ العباس بن الفضل : "يطبع" بالياء، وقوله: "كذلك" أي: هذا فعلنا بهؤلاء، ثم ابتدأ: كذلك نطبع أي كفعلنا هذا. و المعتدين هم الذين تجاوزوا طورهم، واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي هاهنا في الكفر.

والضمير في "بعدهم" عائد على الرسل، والضمير في "وملئه" عائد على فرعون، والملأ: الجماعة من قبيلة وأهل مدينة، ثم يقال للأشراف والأعيان من القبيلة أو البلد ملأ، أي: هم يقومون مقام الملإ، وعلى هذا الحد هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش بدر : "أولئك الملأ" ، وكذلك هي في قوله تعالى: إن الملأ يأتمرون بك . وأما في هذه الآية فهي عامة لأن بعثة موسى وهارون كانت إلى فرعون وجميع قومه من شريف ومشروف، وقد مضى في المص ، ذكرهما وما بعثا إليهم فيه، والآيات: البراهين والمعجزات وما في معناها، وقوله: فاستكبروا أي: تعظموا وكفروا بها، و مجرمين معناه: يرتكبون ما لم يبح الله ويجسرون من ذلك على الخطر الصعب.

التالي السابق


الخدمات العلمية