1. الرئيسية
  2. تفسير ابن عطية
  3. تفسير سورة الرعد
  4. تفسير قوله عز وجل والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه
صفحة جزء
[ ص: 210 ] قوله عز وجل:

والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

اختلف المتأولون فيمن عني بهذه الآية -فقال ابن زيد : عني به من آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وشبهه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والمعنى مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بما يرد على النبي صلى الله عليه وسلم من مباحات الشرع، وقال قتادة : عني به جميع المؤمنين، و"الكتاب" هو القرآن، و " ما أنزل إليك " يراد به جميع الشرع، وقالت فرقة: المراد:" بالذين آتيناهم الكتاب" اليهود والنصارى، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم فلا يعتد بفرحهم، ويضعف أيضا بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.

و"الأحزاب" قال مجاهد : هم اليهود والنصارى والمجوس، وقالت فرقة: أحزاب الجاهلية من العرب ، وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم، و أن يصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك والدعاء إليه، اعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة.

وقوله: "وكذلك"، المعنى: كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك [ ص: 211 ] أنزلناه حكما عربيا ، ويحتمل المعنى: والمؤمنون آتيناهم الكتاب يفرحون به لفهمهم له وسرعة تلقيهم، ثم عدد النعمة بقوله: كذلك جعلناه، أي: سهلناه عليهم في ذلك وتفضلنا. و"حكما" نصب على الحال، والحكم: ما تضمنه القرآن من المعاني، وجعله عربيا لما كانت العبارة عنه بالعربية. ثم خاطب محذرا من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة، والخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام وهو بالمعنى يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة. ووقف ابن كثير وحده على: "واقي" و"هادي" و"والي" بالياء، قال أبو علي : "والجمهور يقفون بغير ياء، وهو الوجه"، وباقي الآية بين.

وقوله تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك الآية. في صدرها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد على المقترحين من قريش بالملائكة، المتعجبين من بعثة الله بشرا رسولا، فالمعنى: أن بعثك يا محمد ليس ببدع، فقد تقدم هذا في الأمم، ثم جاء قوله: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله الآية، لفظه لفظ النهي والزجر، والمقصد به إنما هو النفي المحض، لكنه نفي تأكيد بهذه العبارة، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد. و بإذن الله معناه: إلا أن يأذن الله في ذلك.

وقوله تعالى: لكل أجل كتاب لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال، وذلك أنه ليس كائن فيها إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته، وكل أجل مكتوب محصور، فأخبر الله تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة، وقال الضحاك ، والفراء : المعنى: لكل كتاب أجل.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا العكس غير لازم، ولا وجه له، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن، بل يمكن [ ص: 212 ] هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها ولا أجل له.

وقوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت ، قرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "ويثبت" بتشديد الباء، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم بتخفيفها، وقد تخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتلخص به مشكلها: أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل، وعلمها بحال ما، لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي كتبت في أم الكتاب، وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كغفر الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر إلى القضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت، وجاءت العبارة مستقبلة لمحي الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان، فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت، وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم، وقالت فرقة منهم الحسن : هي في آجال بني آدم ، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر -وقيل: ليلة نصف شعبان- يكتب آجال الموتى، فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى، وقال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يمحوا الله ما يشاء ويثبت.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاما في جميع الأشياء، فمن ذلك أن يكون معنى الآية: أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها، أعني ما من شأنه أن يغير على ما قدمناه، فيمحو من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها، وروي عن عمر، وابن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما: "اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء [ ص: 213 ] وتثبت"، وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة الجزع منهما. أي: اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك، وكتبت علينا ذنوب وشقاوة فامحها عنا بالمغفرة والطاعة، وفي لفظ عمر رضي الله عنه -في بعض الروايات- بعض من هذا، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء، ولا يتأول عليهما ذلك.

وقيل: إن هذه الآية نزلت لأن قريشا لما سمعت قول الله تعالى: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله قالوا: ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ، فنزلت يمحو الله ما يشاء ويثبت أي: ربما أذن الله من ذلك كما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن.

وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يمحو الله ما يشاء ويثبت من أمور عباده، إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا نحو ما أصلناه أولا في الآية.

وحكي عن فرقة أنها قالت: يمحو الله ما يشاء ويثبت من كتاب حاشى أم الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئا، وقالت فرقة: معناه: يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة. وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعبا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، وذكر أبو المعالي في التلخيص أن عليا رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب، وذلك عندي- لا يصح عن علي.

واختلفت أيضا عبارة المفسرين في تفسير أم الكتاب -فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الذكر، وقال كعب: هو علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق [ ص: 214 ] القضاء فيها بما هو كائن، وسبق ألا يبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت، قال نحوه قتادة ، وقالت فرقة: معنى أم الكتاب : الحلال والحرام، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.

التالي السابق


الخدمات العلمية