صفحة جزء
[ ص: 324 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النحل

هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده، وهي مكية غير قوله تعالى: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وقتلى أحد، وغير قوله تعالى: واصبر وما صبرك إلا بالله ، وغير قوله: ثم إن ربك للذين هاجروا الآية، وأما قوله تعالى: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فمكي في شأن هجرة الحبشة.

قوله عز وجل:

أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل عليه السلام في سرد الوحي: أتى أمر الله وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، فلما قال: فلا تستعجلوه سكن. وقوله: أمر الله قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة، وفيها وعيد للكفار، [ ص: 325 ] وقيل: المراد نصر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد عليه الصلاة والسلام لهم وظهوره عليهم، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم، هذا هو قول الضحاك، ويبعده قوله: فلا تستعجلوه لأنا لا نعرف استعجالا إلا ثلاثة: اثنان منها للكفار في القيامة وفي العذاب، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام، وقوله: "أتى" -على هذا القول- إخبار عن إتيان ما سيأتي، وصح ذلك من جهة التأكيد، وإذا كان الخبر حقا يؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع، ويحسن ذلك في خبر الله تبارك تعالى لصدق وقوعه.

وقال قوم: "أتى" بمعنى قرب، وهذا نحو ما قلت، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينة التأكيد ويفهم المجاز، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب، وإنما جاز في الشرط لوضوح القرينة بـ "أن"، ومن قال: "إن الأمر القيامة" قال: إن قوله: فلا تستعجلوه رد على القائلين: عجل لنا قطنا ونحوه من العذاب، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء –وهي قرأة الجمهور- على مخاطبة المؤمنين، أو على مخاطبة الكافرين، بمعنى: قل لهم: فلا تستعجلوه ، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين، وقرأ حمزة ، والكسائي : "تشركون" بالتاء من فوق، وجميع الباقين قرؤوا بالياء، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين، قال أبو حاتم : قرأ "يشركون" بالياء من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج ، وأبو جعفر ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن نصاح، والحسن، وأبو رجاء ، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء من أسفل، وقرأهما جميعا بالتاء من فوق أبو العالية ، وطلحة، والأعمش ، وأبو عبد الرحمن ، ويحيى بن وثاب ، والجحدري، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى.

وقوله: سبحانه وتعالى معناه: تنزيها له، وحكى الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت أتى أمر الله فلا تستعجلوه قال رجال من الكفار: إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى، فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر، فلما لم يروا شيئا عادوا، فنزلت اقترب [ ص: 326 ] للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ، فقالوا مثل ذلك، ثم عادوا فنزلت ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه الآية. وقال أبو بكر بن حفص : لما نزلت أتى أمر الله رفعوا رؤوسهم فنزلت فلا تستعجلوه ، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ: "يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه"، و"سبحانه" نصب على المصدر، أي: تنزيها له.

وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "ينزل الملائكة" بالياء وشد الزاي، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون للعظمة وشد الزاي، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير، وقرأ أبو بكر عن عاصم "تنزل" بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع "الملائكة" على ما لم يسم فاعله، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجحدري بالياء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي، وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وعاصم ، والجحدري ، والأعرج بفتح التاء ورفع "الملائكة" على أنها فاعلة، ورواها المفضل عن عاصم ، و"الملائكة" ها هنا جبريل عليه السلام.

واختلف المتأولون في "الروح" -فقال مجاهد : الروح: النبوة، وقال ابن عباس : الوحي، وقال قتادة : بالرحمة والوحي، وقال الربيع بن أنس: كل كلام الله روح، ومنه قوله تعالى: أوحينا إليك روحا من أمرنا ، وقال ابن جريج : الروح: شخص له صورة كصورة بني آدم ، ما نزل جبريل قط إلا وهو معه، وهم كثير، وهم ملائكة. وهذا قول ضعيف لم يأت به سند، وقال الزجاج : الروح: ما تحيا به القلوب من هداية الله تعالى لها.

[ ص: 327 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قول حسن، وكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة، أي: إن هذا الذي أمر الأنبياء أن ينذروا به الناس من الدعاء إلى التوحيد هو بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد، ألا ترى قوله تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ، و"من" في هذه الآية -على هذا التأويل الذي قدرناه- للتبعيض، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس. و"من" في قوله: على من يشاء هي للأنبياء، و"أن" في موضع خفض بدل من "الروح"، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض، على تقدير: بأن أنذروا، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى "أي". وقرأ الأعمش : "لينذروا"، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد.

ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى، ولم يذكره على لفظه، لأنه لو ذكره على اللفظ لقال: أن أنذروا أنه لا إله إلا الله، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه، وهذا شائع في كل الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها، أو تحكى بالمعنى فقط.

وقوله تعالى: " خلق السماوات والأرض " آية تنبيه على قدرة الله تعالى. وقوله: "بالحق" أي بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات يحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع ويعيد، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة، بخلاف شركائهم الذين لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية. وقرأ الأعمش بزيادة فاء: "فتعالى".

وقوله تعالى: خلق الإنسان من نطفة يراد بالإنسان الجنس، وأخذ له الغايتين ليظهر له البعد بينهما بقدرة الله، وروي أن الآية نزلت لقول أبي بن خلف: "من يحيي العظام وهي رميم؟" وقوله: "خصيم" يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يختصمون في الله، ويجادلون في توحيده وشرعه، ذكره ابن سلام عن الحسن البصري، ويحتمل [ ص: 328 ] أن يريد أعم من هذا، على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر، ويظهر أنها إذ تقرر في خصام الكافرين ينضاف إلى العبرة وعيد ما.

التالي السابق


الخدمات العلمية