صفحة جزء
[ ص: 565 ] قوله عز وجل:

فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا

هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: "فلعلك" تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه، أي: لا تكن كذلك. و "الباخع نفسه" هو مهلكها وجدا وحزنا على أمر ما، ومنه قول الشاعر:


ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر



يريد: "نحته" فخفف.

وقوله تعالى: على آثارهم استعارة فصيحة، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان، وإعراض عن الشرع، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم. وقوله سبحانه: بهذا الحديث ، أي: بالقرآن الذي نحدثك به، و"أسفا" نصب على المصدر، قال الزجاج : و الأسف: المبالغة في حزن أو غضب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والأسف -في هذا الموضع- الحزن; لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضبا، كقوله تعالى: فلما آسفونا ، أي: أغضبونا، وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد، وذكره منذر بن سعيد، وقال قتادة هنا: "أسفا": غضبا، وقال مجاهد : "أسفا": جزعا، وقال قتادة أيضا: حزنا، ومن هذه اللفظة قول الأعشى :


أرى رجلا منكم أسيفا كأنما ...     يضم إلى كشحيه كفا مخضبا



[ ص: 566 ] يريد: حزينا كأنه مقطوع اليد.

وقوله تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها الآية بسط في التسلية، أي: لا تهتم للدنيا وأهلها، فأمرها وأمرهم أقل لفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانا وخبرة.

واختلف في المراد بها، فقال ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أراد الرجال، وقاله مجاهد ، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء. وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه ونحو هذا مما فيه زينة، ولم تدخل في هذا الجبال الصم وكل ما لا زين فيه كالحيات والعقارب. وقالت فرقة: أراد كل ما على الأرض، وليس شيء إلا وفيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه، وفي معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" . و"زينة" مفعول ثان، أو [ ص: 567 ] مفعول من أجله بحسب معنى "جعل".

وقوله تعالى: لنبلوهم أيهم أحسن عملا معناه: لنختبرهم، وفي هذا وعيد ما. قال سفيان الثوري: أحسنهم عملا: أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني: أحسن عملا: أترك لها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وكان أبي رحمه الله يقول: أحسن العمل: أخذ بحق، وإنفاق في حق مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.

وقوله تعالى: وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ، أي: يرجع كل ذلك ترابا غير متزين بنبات ونحوه، و "الجرز": الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، وهي البلقع، وهذه حالة الأرض العامرة بالزين، ولا بد لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض، ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة، يقال: جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه إذا ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها ولا نفع. وأرضون أجراز. وقال الزجاج : الجرز: الأرض التي لا تنبت.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وإنما ينبغي أن يقول: التي لم تنبت. و "الصعيد": وجه الأرض، وقيل: الصعيد: التراب خاصة، وقيل: الصعيد: الأرض الطيبة، وقيل: الصعيد: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة.

وقوله تعالى: أم حسبت الآية. مذهب سيبويه في "أم" إذا جاءت قبل أن تتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى "بل" و"ألف الاستفهام"، كأنه قال: بل أحسبت؟ إضرابا عن الحديث الأول واستفهاما عن الثاني. وقال بعض النحويين: هي بمنزلة ألف الاستفهام، وأما معنى الكلام فقال الطبري : هو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف أتوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه، أي: لا تعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشنع، وهو قول ابن [ ص: 568 ] عباس، ومجاهد ، وقتادة ، وابن إسحاق. وذكر الزهراوي أن الآية تحتمل معنى آخر، وهو أن تكون استفهاما له، هل علم أن أصحاب الكهف عجبا؟ بمعنى إثبات أنهم عجب، وتكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر; لأن جوابه أن يقول: لم أحسب ذلك ولا علمته، فيقال له وصفهم عند ذلك، والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة "حسبت"، فتأمله.

و"الكهف": الثقب المتسع في الجبل، وما لم يتسع منها فهو غار. وحكى النحاس عن أنس بن مالك أنه قال: "الكهف": الجبل، وهذا غير شهير في اللغة. واختلف الناس في "الرقيم" -فقال كعب: الرقيم: القرية التي كانت بإزاء "الكهف"، وقال ابن عباس ، وقتادة : "الرقيم": الوادي الذي كان بإزائه، وهو واد بين عصبان وأيلة دون فلسطين. وقال ابن عباس أيضا: هو الجبل الذي فيه "الكهف". وقال السدي: "الرقيم": الصخرة التي كانت على "الكهف"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "الرقيم": كتاب مرقوم كان عندهم، فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل: من دين قبل عيسى عليه السلام، وقال ابن زيد : كتاب عمى الله علينا أمره ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة: "الرقيم": كتاب في لوح نحاس، وقال ابن عباس : في لوحين من رصاص كتب فيهما القوم الكفار الذين فر الفتية منهم قصتهم، وجعلوها تاريخا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبني من كانوا. وقال سعيد بن جبير : "الرقيم" لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب "الكهف" ووضعوه على باب الكهف.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويظهر من هذه الرويات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث، وذلك من قبل المملكة، وهو أمر مفيد، وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم، ومنه: كتاب مرقوم ، [ ص: 569 ] ومنه "الأرقم" لتخطيطه، ومنه: "رقمة الوادي"، أي: مكان جري الماء وانعطافه، يقال: عليك بالرقمة وخل الضفة.

وقال النقاش عن قتادة : "الرقيم": دراهمهم، وقال أنس بن مالك ، والشعبي : "الرقيم": الكلب، وقال عكرمة : "الرقيم": الدواة، وقالت فرقة: الرقيم كان لفتية آخرين في السراة جرى لهم ما جرى لأصحاب "الكهف". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما أدري ما "الرقيم"، أكتاب أم بنيان؟ وروي أنه قال: كل القرآن أعلمه إلا: الحنان، والأواه، والرقيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية