صفحة جزء
[ ص: 652 ] قوله عز وجل:

ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا

اختلف فيمن سأله عن هذه القصة، فقيل: سألته طائفة من أهل الكتاب، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثا ذكره الطبري ، وقيل: إنما سألته قريش حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح والرجل الطواف وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك.

وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني، وقال وهب بن منبه: هو رومي، وذكر الطبري حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذا القرنين شاب من الروم، وهو حديث واهي السند، عن شيخين من تجيب.

واختلف الناس في وجه تسميته بذي القرنين، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفيرتين من شعر هما قرناه، فسمي بهما، ذكره المهدوي وغيره، والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر:


فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج



ومنه الحديث في غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أم عطية: "فضفرنا رأسها ثلاثة [ ص: 653 ] قرون"، وكثيرا تجيء تسمية النواصي قرونا.

وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس ويمسك قرنين لها بيديه، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه وسمي ذا القرنين، وقالت فرقة: سمي ذا القرنين لأنه بلغ المغرب والمشرق، فكأنه حاز قرني الدنيا، وقالت فرقة: إنه بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرنيها فسمي بذلك، أو قرني الشيطان بها، وقال وهب بن منبه: سمي بذلك لأن جنبتي رأسه كانتا من نحاس، وقال وهب بن منبه أيضا: كان له قرنان تحت عمامته.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا كله بعيد، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنما سمي ذا القرنين لأنه ضرب على قرن رأسه فمات، ثم حيي، ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه، فسمي بذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قريب.

والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها، فروي أن جميع ملوك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود عليه السلام، والإسكندر، والكافران نمروذ وبختنصر. وقوله تعالى: وآتيناه من كل شيء سببا معناه: علما في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء. وقوله: " كل شيء " عموم معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه، وثم لا محالة أشياء لم يؤت منها سببا يعلمها به.

[ ص: 654 ] واختلف في ذي القرنين، فقيل: هو نبي، وهذا ضعيف، وقيل: هو ملك -بفتح اللام-، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلا يدعو آخر: يا ذا القرنين، فقال: أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة؟ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال: "ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب"، وقيل: هو عبد ملك -بكسر اللام- صالح نصح لله فأيده، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: "فيكم اليوم مثله"، وعنى بذلك نفسه، والله أعلم.

وقوله تعالى: فأتبع سببا الآية. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو: "فاتبع سببا" بشد التاء، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "فأتبع سببا" بسكون التاء، على وزن أفعل، قال بعض اللغويين: هما بمعنى واحد، وكذلك "تبع"، وقالت فرقة: "أتبع" بقطع الألف عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، و "اتبع" إنما يتضمن معنى الاقتفاء دون هذه القرائن، قاله أبو زيد وغيره.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

واستقرأ هذا القائل هذه المقالة من القرآن، كقوله عز وجل: فأتبعه شهاب ثاقب ، وكقوله تعالى: فأتبعهم فرعون وجنوده ، وكقوله تعالى: فأتبعه الشيطان ، وهذا قول حكاه النقاش عن يونس بن حبيب، وإذا تأملت "اتبع" بشد التاء لم يرتبط لك هذا المعنى ولا بد. و "السبب" في هذه الآية: الطريق المسلوكة; لأنها سبب الوصول إلى المقصد.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم : "في عين حمئة"، على وزن فعلة، أي: ذات حماة، وقرأ عاصم -في رواية أبي بكر -، والباقون: "في عين حامية"، أي حارة، وقد اختلف في قراءة ذلك معاوية وابن عباس ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما "حمئة"، وقال معاوية: "حامية"، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم [ ص: 655 ] بالأمر كيف هو في التوراة، فقال لهما: أما العربية فأنتما أعلم بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثأط، والثأط: الطين، فلما انفصلا قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: لوددت أبا العباس فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين:


قد كان ذو القرنين جدي مسلما ...     ملكا تدين له الملوك ويحشد


بلغ المشارق والمغارب يبتغي ...     أسباب أمر من حكيم مرشد


فرأى مغيب الشمس عند غروبها ...     في عين ذي خلب وثأط حرمد



فالخلب: الطين، والثأط: الحمأة، والحرمد: الأسود، ومن قرأ: "حامية" وجهها إلى الحرارة، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وهي تغيب فقال: "في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من الله لأحرقت ما على الأرض". وروى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال: "أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟ قلت: لا، قال: إنها تغرب في عين حامية"، فهذا يدل على أن العين هنالك حارة، و"حامية" هي قراءة طلحة بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وابنه، وابن عمر، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين فقال: يحتمل أن تكون العين حارة ذات حمأة، فكل قراءة وصف بصفة من أحوالها، وذهب بعض البغداديين إلى أن "في" بمنزلة "عند"، كأنها مسامته من الأرض فيما يرى الرائي لعين حمئة. وقال بعضهم: قوله: في عين إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها، أي: هي آخر الأرض.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وظاهر هذه الأقوال محتمل، والله أعلم. قال أبو حاتم : وقد يمكن أن تكون "حامئة" مهموزة، بمعنى: ذات حمأة، فتكون القراءتان بمعنى واحد. واستدل بعض [ ص: 656 ] الناس على أن ذا القرنين نبي بقوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين ، ومن قال إنه ليس بنبي، قال: كانت هذه المقالة من الله بإلهام.

وقوله تعالى: إما أن تعذب معناه: بالقتل على الكفر، وإما أن تتخذ فيهم حسنا بالحمل على الإيمان واتباع الهدى، فكأنه قيل له: هذه لا تعطها إلا إحدى خطتين: إما أن تكفر فتعذبها، وإما أن تؤمن فتحسن إليها. وذهب الطبري إلى أن "اتخاذ الحسن" هو الأسر مع كفرهم، فالمعنى -على هذا- أنهم كفروا ولا بد، فخيره الله تعالى بين قتلهم أو أسرهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويحتمل أن يكون "الاتخاذ" ضرب الجزية. ولكن تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمر إلى كفر أو إيمان يرد هذا القول بعض الرد، فتأمله.

التالي السابق


الخدمات العلمية