صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني

المعنى: قال الله تعالى: قد أعطيت يا موسى طلبتك في شرح الصدر وتيسير الأمر وحل العقدة، إما بالكل وإما على قدر الحاجة في الأفعال، وإيتاء هذا السؤال منة من الله عز وجل، فقرن إليها قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته.

وكان من قصة موسى عليه السلام - فيما روي - أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه يكون على يدي غلام من بني إسرائيل، فأمر بقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل، ثم إنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر; إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا، فعزم على أن يقتل الولدان سنة ويستحييهم سنة، فولد [ ص: 93 ] هارون عليه السلام في سنة الاستحياء فكانت أمه آمنة، ثم ولد موسى عليه السلام في العام الرابع سنة القتل، فخافت أمه عليه الذبح فبقيت مهتمة، فأوحى الله إليها، قيل: بملك جاء لها فأخبرها وأمرها، قال بعض من روى هذا: ولم تكن نبية; لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من لم يكن نبيا، وقال بعضهم: بل كانت أم موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبية بهذا الوحي، وقال بعضهم: بل كان هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم، وقالت فرقة: بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى النحل وغيرها، فألهمها الله تبارك وتعالى إلى أن اتخذت تابوتا فقذفت فيه موسى راقدا في فراش، ثم قذفته في يم النيل، وكان فرعون جالسا في موضع يشرف على النيل إذ رأى التابوت، فأمر به فسيق إليه وامرأته معه، ففتح فرآه، فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابنا فأباح لها ذلك، وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون يستقين فيها الماء، فأخذن التابوت وحملنه إليها، فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه، ثم إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف يعرض للمراضع، فكلما عرضت عليه امرأة أباها، وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه، فقالت لأخته: اطلبي أثره في المدينة عسى يقع إلينا منه خبر، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره، فقالت لهم: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فتعلقوا بها وقالوا لها: أنت تعرفين هذا الصبي، فقالت: لا، غير أني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها وإرضائها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها، فسرت آسية امرأة فرعون ، وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت لها: ما كنت لأدع بيتي وولدي، ولكنه يكون عندي، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان، واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع، والسبب من الملكة، وأقام موسى حتى كمل رضاعه، فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب، فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويحبه، فرآه وأعجبه وقربه، فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجبذها، فاستشاط فرعون وقال: هذا عدو لي، وأمر بقتله، [ ص: 94 ] فناشدته فيه امرأته وقالت: إنه لا يعقل، فقال فرعون : بل يعقل، فاتفقا على تجربة بالجمرة والياقوت حسبما ذكرناه آنفا في حل العقدة، فنجاه الله من فرعون ورده إلى أمه فشب عندها إلى أن ترعرع، وكان فتى جلدا فاضلا، فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع، وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم، فكانت بصيرته في حمايتهم، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل.

ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت، وذكرها في موضعها مستوعب، فخرج موسى عليه السلام من مصر حتى وصل إلى مدين ، فكان من أمره مع شعيب رسول الله عليه السلام ما هو في موضعه مستوعب في موضعه، من أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سين، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر ، فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى النار حسبما تقدم ذكره، فعدد الله تبارك تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطف الله به في كل فضل، وتخليصه له من قصة إلى أخرى، وهذه الفتون التي فتنه بها، أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها.

وقوله تعالى: ما يوحى إيهام يتضمن عظم الأمر وجلالته في النعم، وهذا نحو قوله سبحانه: إذ يغشى السدرة ما يغشى ، وهو كثير في القرآن والكلام، و أن اقذفيه بدل من "ما"، والضمير الأول في "اقذفيه" عائد على موسى ، وفي الثاني على التابوت، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام . وقوله تعالى: فليلقه اليم خبر خرج في صغية الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا فلأصل لكم ، فأخبر الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة، وهذا كثير، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك. و "العدو" الذي كان لله تبارك وتعالى ولموسى عليه السلام هو فرعون ، ولكن أم موسى أخبرت به على الإيهام،

[ ص: 95 ] ولذلك قالت لأخته: قصيه، وهي لا تدري أين.

ثم أخبر الله تعالى موسى عليه السلام أنه ألقى عليه محبة منه، فقال بعض الناس: أراد محبة آسية ، لأنها كانت من الله وكانت سبب حياته، وقالت فرقة: أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان حظ موسى عليه السلام منه غاية الوفر، فقالت فرقة: أعطاه إجلالا يحبه به كل من رآه، وقالت فرقة: أعطاه ملاحة العينين.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذان القولان فيهما ضعف، وأقوى الأقوال أنه القبول.

وقرأ الجمهور : و "لتصنع على عيني" بكسر اللام وضم التاء على معنى: ولتغذى وتطعم وتربى، وقرأ أبو نهيك : "ولتصنع" بفتح التاء، قال ثعلب : معناه: لتكون حركتك وتصرفك على عين مني، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : "وليصنع" بالياء وكسر اللام على الأمر للغائب، وذلك متجه، وقوله: على عيني معناه: بمرأى مني وأمر مدرك مبصر مراعى.

التالي السابق


الخدمات العلمية