صفحة جزء
قوله عز وجل:

وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين

التقدير: واذكر ذا النون ، والنون: الحوت، وصاحبه يونس بن متى عليه السلام ، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها في موضعها الذي يقتضيه، وهو نبي أهل نينوى ، وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ، وفي حديث آخر: لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ، وهذا الحديث وقوله: لا تفضلوني على موسى يتوهم أنهما يعارضان قوله عليه الصلاة والسلام على المنبر: أنا سيد ولد آدم ولا فخر .

[ ص: 194 ] والانفصال عن هذا بوجهين: أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله: أنا سيد ولد آدم يتأخر في التاريخ، وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر، والوجه الثاني وهو عندي أجرى مع حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ، ولكنه نهى أن يفضل على موسى كراهة أن يغضب لذلك اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان، وسبب الحديث يقتضي هذا، وذلك أن يهوديا قال: لا والذي فضل موسى على العالمين، فقال له رجل من الأنصار : أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ 14 فسرى الأمر وارتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن تفضيله على موسى ، ونهى عليه الصلاة والسلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس عليه السلام نقص فضيلة بسبب ما وقع له، فنهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل على شخص معين، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ثالث: لا تفضلوا بين الأنبياء . وهذا كله مع قوله: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وإطلاق الفضل له دون اقتران بأحد بين صحيح. وتأمل هذا فإنه يلوح، فقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة : امدح ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ولفظة "سيد" ولفظة "خير" سيان، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن من التعارض.

وقوله تعالى: "مغاضبا"، قيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم، فكان ذنبه في مخالفة هذا الأمر، وروي أنه كان شابا فلم يحتمل أثقال النبوة وتفسخ تحتها كما [ ص: 195 ] يتفسخ الربع تحت الحمل، ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ولا تكن كصاحب الحوت أي: فاصبر ودم على الشقاء بقومك، وقالت فرقة: إنما غاضب الملك الذي كان على قومه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليه السلام . وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: إنما ذهب مغاضبا ربه واستفزه إبليس، ورووا في ذلك أن يونس عليه السلام لما طال عليه أمر قومه طلب من الله عذابهم، فقيل له: إن العذاب يجيئهم يوم كذا، فأخبرهم يونس عليه السلام بذلك، فقالوا: إن رحل عنا فالعذاب نازل، وإن أقام بيننا لم نبال، فلما كان سحر ذلك اليوم قام يونس فرحل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز، وفرقوا بين صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا فرفع الله عنهم العذاب، وبقي يونس في موضعه الذي خرج إليه ينتظر الخبر، فلما عرف أنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذبا، وقال: والله لا انصرفت إليهم أبدا، وروي أنه كان من دينهم قتل الكذاب، فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة في البحر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي.

واختلف الناس في قوله تعالى: فظن أن لن نقدر عليه فقالت فرقة: استفزه إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لن يقدر الله عليه بمعاقبة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا قول مردود.

وقالت فرقة: معنى: " ظن أن له نقدر عليه " أن لن يضيق عليه في مذهبه، من قوله تعالى: " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ، وقالت فرقة: هو من القدر، أي ظن أن لن يقضي عليه بعقوبة، وقالت فرقة: الكلام بمعنى الاستفهام، أي: أفظن أن لن [ ص: 196 ] نقدر عليه؟ وحكى منذر بن سعيد أن بعضهم قرأ: "أفظن" بالألف، وقرأ الزهري : "نقدر" بضم النون وفتح القاف وشد الدال، وقرأ الحسن : "فظن أن لن يقدر عليه"، وعنه أيضا: "نقدر"، وبعد هذا الكلام حذف كثير اقتضب لبيانه في غير هذه الآية. المعنى: فدخل البحر وكذا وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه.

واختلف الناس في جمع "الظلمات" ما المراد به؟ فقالت فرقة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت، وقالت فرقة: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول، وظلمة الحوت الأول الذي التقم يونس عليه السلام .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط، كما قال: في غيابت الجب ، وكل جهاته ظلمة فجمعها سائغ، وروي أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر، ثم قال في دعائه: "اللهم إني قد اتخذت لك مسجدا في موضع لم يتخذه أحد قبلي". و "أن" مفسرة نحو قوله تعالى: "أن امشوا"، وفي هذا نظر، وقوله: "من الظالمين" يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم، هذا أحسن الوجوه، وقد تقدم ذكر غيره، فاستجاب الله له وأخرجه إلى البر، ووصف هذا يأتي في موضعه. و "الغم" ما كان ناله حين التقمه الحوت.

وقرأ جمهور القراء: "ننجي" بنونين الثانية ساكنة، وقرأ عاصم - في رواية أبي بكر -: "نجي" بنون واحدة مضمومة وشد الجيم، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأت [ ص: 197 ] فرقة: "ننجي" بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة والجيم مشددة، فأما القراءة الأولى والثالثة فبينتان، والأولى فعلها معدى بالهمزة، والأخرى بالتضعيف، وأما القراءة الوسطى التي هي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة فقال أبو علي : لا وجه لها، وإنما هي وهم من السامع، وذلك أن عاصما قرأ: "ننجي" والنون الثانية لا يجوز إظهارها لأنها تخفى مع هذه الحروف، يعني الجيم وما جرى مجراها، فجاء الإخفاء يشبهها بالإدغام، ويمتنع أن يكون الأصل "ننجي" ثم يدعو اجتماع النونين إلى إدغام إحداهما في الجيم; لأن اجتماع المثلين إنما يدعو إلى ذلك إذا كانت الحركة فيهما متفقة، ويمتنع أن يكون الأصل "ننجي" وتسكن الياء ويكون المفعول الذي لم يسم فاعله المصدر، كأنه قال: نجي النجاء المؤمنين; لأن هذه لا تجيء إلا في ضرورة، فليست في كتاب الله تعالى، والشاهد فيها قول الشاعر:


ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا

وأيضا فإن الفعل الذي بني للمفعول إذا كان ماضيا لم يسكن آخره.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والمصاحف فيها نون واحدة كتبت كذلك من حيث النون الثانية مخفية.

التالي السابق


الخدمات العلمية