صفحة جزء
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين .

ذلك : "ذا" اسم إشارة؛ واللام عماد جيء به للدلالة على بعد المشار إليه؛ والكاف للخطاب؛ والمشار إليه هو المسمى؛ فإنه منزل منزلة المشاهد بالحس البصري؛ وما فيه من معنى البعد؛ مع قرب العهد بالمشار إليه؛ للإيذان بعلو شأنه؛ وكونه في الغاية القاصية من الفضل والشرف؛ إثر تنويهه بذكر اسمه؛ وما قيل من أنه باعتبار التقصي؛ أو باعتبار الوصول من المرسل إلى المرسل إليه؛ في حكم المتباعد؛ وإن كان مصححا لإيراده؛ لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وضع للإشارة إلى القريب؛ وتذكيره على تقدير كون المسمى هي السورة؛ لأن المشار إليه هو المسمى بالاسم المذكور؛ من حيث هو مسمى به؛ لا من حيث هو مسمى بالسورة؛ ولئن ادعي اعتبار الحيثية الثانية في الأول؛ بناء على أن التسمية لتمييز السور بعضها من بعض؛ فذلك لتذكير ما بعده؛ وهو - على الوجه الأول - مبتدأ على حدة؛ وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثان.

وقوله - عز وعلا -: الكتاب ؛ إما خبر له؛ أو صفة؛ أما إذا كان خبرا له فالجملة على الوجه الأول مستأنفة؛ مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من نباهة شأن المسمى؛ لا محل لها من الإعراب؛ وعلى الوجه الثاني في محل الرفع؛ على أنها خبر للمبتدإ الأول؛ واسم الإشارة مغن عن الضمير الرابط؛ و"الكتاب" إما مصدر سمي به المفعول مبالغة؛ كالخلق والتصوير للمخلوق والمصور؛ وإما "فعال" بني للمفعول؛ كـ "اللباس"؛ من "الكتب"؛ الذي هو ضم الحروف بعضها إلى بعض؛ وأصله الجمع؛ والضم في الأمور البادية للحس البصري؛ ومنه "الكتيبة" للعسكر؛ كما أن أصل القراءة الجمع والضم في الأشياء الخافية عليه؛ وإطلاق "الكتاب" على المنظوم عبارة لما أن مآله الكتابة؛ والمراد به - على تقدير كون المسمى هي السورة - جميع القرآن الكريم؛ وإن لم يتم نزوله عند نزول السورة؛ إما باعتبار تحققه في علم الله - عز وجل -؛ أو باعتبار ثبوته في اللوح؛ أو باعتبار نزوله جملة إلى السماء الدنيا؛ حسبما ذكر في فاتحة الكتاب. واللام للعهد؛ والمعنى: أن هذه السورة هي الكتاب؛ أي العمدة القصوى منه؛ كأنه في إحراز الفضل كل الكتاب المعهود الغني عن الوصف بالكمال؛ لاشتهاره به فيما بين الكتب؛ على طريقة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة"؛ وعلى تقدير كون المسمى كل القرآن فالمراد بالكتاب الجنس؛ واللام للحقيقة؛ والمعنى: أن ذلك هو الكتاب [ ص: 24 ] الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب ؛ لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس؛ كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه؛ بالنسبة إليه؛ كما يقال: هو الرجل؛ أي الكامل في الرجولية؛ الجامع لما يكون في الرجال من مراضي الخصال؛ وعليه قول من قال:


... هم القوم كل القوم يا أم خالد



فالمدح كما ترى من جهة حصر كمال الجنس في فرد من أفراده؛ وفي الصورة الأولى من جهة حصر كمال الكل في الجزء؛ ولا مساغ هناك لحمل الكتاب على الجنس؛ لما أن فرده المعهود هو مجموع القرآن؛ المقابل لسائر أفراده؛ من الكتب السماوية؛ لا بعضه الذي ينطلق عليه اسم الكتاب؛ باعتبار كونه جزءا لهذا الفرد؛ لا باعتبار كونه جزئيا للجنس على حياله؛ ولأن حصر الكمال في السورة مشعر بنقصان سائر السور؛ وإن لم يكن الحصر بالنسبة إليها؛ لتحقيق المغايرة بينهما؛ هذا على تقدير كون "الكتاب"؛ خبرا لـ "ذلك"؛ وأما إذا كان صفة له فـ "ذلك الكتاب"؛ على تقدير كون "الـم"؛ خبر مبتدإ محذوف؛ إما خبر ثان؛ أو بدل من الخبر الأول؛ أو مبتدأ مستقل خبره ما بعده؛ وعلى تقدير كونه مبتدأ؛ إما خبر له؛ أو مبتدأ ثان خبره ما بعده؛ والجملة خبر للمبتدإ الأول؛ والمشار إليه على كلا التقديرين هو المسمى؛ سواء كان هي السورة؛ أو القرآن؛ ومعنى البعد ما ذكر من الإشعار بعلو شأنه؛ والمعنى: ذلك الكتاب العجيب الشأن؛ البالغ أقصى مراتب الكمال ؛ وقيل: المشار إليه هو الكتاب الموعود؛ فمعنى البعد حينئذ ظاهر؛ خلا أنه إن كان المسمى هي السورة ينبغي أن يراد بالوعد ما في قوله (تعالى): إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ؛ كما قيل: وإن كان هو القرآن فهو ما في التوراة والإنجيل؛ هذا على تقدير كون "الـم"؛ اسما للسورة؛ أو القرآن؛ وأما على تقدير كونها مسرودة على نمط التعديد فـ "ذلك"؛ مبتدأ؛ و"الكتاب"؛ إما خبره؛ أو صفته؛ والخبر ما بعده؛ على نحو ما سلف؛ أو يقدر مبتدأ؛ أي: المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب؛ وقرئ: "الـم تنزيل الكتاب"؛ وقوله (تعالى): لا ريب فيه ؛ إما في محل الرفع؛ على أنه خبر لـ "ذلك الكتاب"؛ على الصور الثلاث المذكورة؛ أو على أنه خبر ثان لـ "الـم"؛ أو لـ "ذلك"؛ على تقدير كون "الكتاب"؛ خبره؛ أو للمبتدإ المقدر آخرا؛ على رأي من يجوز كون الخبر الثاني جملة؛ كما في قوله (تعالى): فإذا هي حية تسعى ؛ وإما في محل النصب على الحالية من "ذلك"؛ أو من "الكتاب"؛ والعامل معنى الإشارة؛ وإما جملة مستأنفة؛ لا محل لها من الإعراب؛ مؤكدة لما قبلها؛ وكلمة "لا" نافية للجنس؛ مفيدة للاستغراق؛ عاملة عمل "إن"؛ بحملها عليها؛ لكونها نقيضا لها؛ ولازمة للاسم لزومها؛ واسمها مبني على الفتح؛ لكونه مفردا نكرة؛ لا مضافا؛ ولا شبيها به؛ وأما ما ذكره الزجاج من أنه معرب وإنما حذف التنوين للتخفيف فمما لا تعويل عليه؛ وسبب بنائه تضمنه لمعنى "من" الاستغراقية؛ لا أنه مركب معها تركيب "خمسة عشر" كما توهم؛ وخبرها محذوف؛ أي: "لا ريب موجود"؛ أو نحوه؛ كما في قوله (تعالى): لا عاصم اليوم من أمر الله ؛ والظرف صفة لاسمها؛ ومعناه: نفي الكون المطلق وسلبه عن الريب المفروض في الكتاب؛ أو الخبر هو الظرف؛ ومعناه: سلب الكون فيه عن الريب المطلق؛ وقد جعل الخبر المحذوف ظرفا؛ وجعل المذكور خبرا لما بعده؛ وقرئ: "لا ريب فيه"؛ على أن "لا" بمعنى "ليس"؛ والفارق بينه وبين الأول أن ذلك موجب للاستغراق؛ وهذا مجوز له؛ والريب في الأصل مصدر "رابني"؛ إذا حصل فيك الريبة؛ وحقيقتها قلق النفس؛ واضطرابها؛ ثم استعمل في معنى الشك مطلقا؛ أو مع تهمة؛ لأنه يقلق النفس؛ ويزيل الطمأنينة؛ وفي [ ص: 25 ] الحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ؛ ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته وكونه وحيا منزلا من عند الله (تعالى)؛ لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا ؛ ألا يرى كيف جوز ذلك في قوله (تعالى): وإن كنتم في ريب مما نزلنا ؛ إلخ..؟ فإنه في قوة أن يقال: وإن كان لكم ريب فيما نزلنا؛ أو إن ارتبتم فيما نزلنا؛.. إلخ.. إلا أنه خولف في الأسلوب؛ حيث فرض كونهم في الريب؛ لا كون الريب فيه؛ لزيادة تنزيه ساحة التنزيل عنه؛ مع نوع إشعار بأن ذلك من جهتهم؛ لا من جهته العالية؛ ولم يقصد ههنا ذلك الإشعار؛ كما لم يقصد الإشعار بثبوت الريب في سائر الكتب؛ ليقتضي المقام تقديم الظرف؛ كما في قوله (تعالى): لا فيها غول .

هدى : مصدر من "هداه"؛ كـ "السرى"؛ و"البكى"؛ وهو الدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية؛ أي ما من شأنه ذلك؛ وقيل: هي الدلالة الموصله إليها؛ بدليل وقوع الضلالة في مقابلته؛ في قوله (تعالى): أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ؛ وقوله (تعالى): وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ؛ ولا شك في أن عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلال؛ فيعتبر الوصول في مفهوم مقابله؛ ومن ضرورة اعتباره فيه اعتباره في مفهوم الهدى المتعدي؛ إذ لا فرق بينهما إلا من حيث التأثير والتأثر؛ ومحصله أن الهدى هو التوجيه الموصل؛ لأن اللازم هو التوجه الموصل؛ بدليل أن مقابله الذي هو الضلال توجه غير موصل قطعا؛ وهذا - كما ترى - مبني على أمرين: اعتبار الوصول وجوبا في مفهوم اللازم؛ واعتبار وجود اللازم وجوبا في مفهوم المتعدي؛ وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت؛ أما الأول فلأن مدار التقابل بين الهدى والضلال ليس هو الوصول وعدمه؛ على الإطلاق؛ بل هما معتبران في مفهوميهما على وجه مخصوص به؛ ليتحقق التقابل بينهما؛ وتوضيحه أن الهدى لا بد فيه من اعتبار توجه عن علم إلى ما من شأنه الإيصال إلى البغية؛ كما أن الضلال لا بد فيه من اعتبار الجور عن القصد إلى ما ليس من شأنه الإيصال قطعا؛ وهذه المرتبة من الاعتبار مسلمة بين الفريقين؛ ومحققة للتقابل بينهما؛ وإنما النزاع في أن إمكان الوصول إلى البغية هل هو كاف في تحصل مفهوم الهدى؛ أو لا بد فيه من خروج الوصول من القوة إلى الفعل؛ كما أن عدم الوصول بالفعل معتبر في مفهوم الضلال قطعا؛ إذا تقرر هذا نقول: إن أريد باعتبار الوصول بالفعل في مفهوم الهدى اعتباره مقارنا له في الوجود زمانا؛ حسب اعتبار عدمه في مفهوم مقابله؛ فذلك بين البطلان؛ لأن الوصول غاية للتوجه المذكور؛ فينتهي به قطعا لاستحالة التوجه إلى تحصيل الحاصل؛ وما يبقى بعد ذلك هو إما توجه إلى الثبات عليه؛ وإما توجه إلى زيادته؛ ولأن التوجه إلى المقصد تدريجي؛ والوصول إليه دفعي؛ فيستحيل اجتماعهما في الوجود ضرورة؛ وأما عدم الوصول فحيث كان أمرا مستمرا - مثل ما يقتضيه من الضلال - وجب مقارنته له في جميع أزمنة وجوده؛ إذ لو فارقه في آن من آنات تلك الأزمنة لقارنه في ذلك الآن مقابلة الذي هو الوصول؛ فما فرضناه ضلالا لا يكون ضلالا؛ وإن أريد اعتباره من حيث إنه غاية له واجبة الترتب عليه لزم أن يكون التوجه المقارن لغاية الجد في السلوك إلى ما من شأنه الوصول عند تخلفه عنه؛ لمانع خارجي؛ كاخترام المنية مثلا من غير تقصير؛ ولا جور من قبل المتوجه؛ ولا خلل من جهة المسلك ضلالا؛ إذ لا واسطة بينهما؛ مع أنه جور فيه عن القصد أصلا؛ فبطل اعتبار وجوب الوصول في مفهوم اللازم قطعا؛ [ ص: 26 ] وتبين منه عدم اعتباره في مفهوم المتعدي حتما؛ وأما اعتبار وجود اللازم فيه وجوبا - وهو الأمر الثاني - فبيانه مبني على تمهيد أصل؛ وهو أن فعل الفاعل حقيقة هو الذي يصدر عنه؛ ويتم من قبله؛ لكن.. لما لم يكن له في تحققه في نفسه بد من تعلقه بمفعوله اعتبر ذلك في مدلول اسمه قطعا؛ ثم لما كان له باعتبار كيفية صدوره عن فاعله؛ وكيفية تعلقه بمفعوله؛ وغير ذلك آثار شتى مترتبة عليه؛ متمايزة في أنفسها؛ مستقلة بأحكام مقتضية لإفرادها بأسماء خاصة؛ وعرض له - بالقياس إلى كل أثر من تلك الآثار - إضافة خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له - بالقياس إلى سائرها -؛ وكانت تلك الآثار تابعة له في التحقق؛ غير منفكة عنه أصلا - إذ لا مؤثر لها سوى فاعله -؛ عدت من متمماته؛ واعتبرت الإضافة العارضة له بحسبها داخلة في مدلوله؛ كالاعتماد المتعلق بالجسم مثلا؛ وضع له - باعتبار الإضافة العارضة له من انكسار ذلك الجسم الذي هو أثر خاص لذلك الاعتماد - اسم الكسر؛ وباعتبار الإضافة العارضة له من انقطاعه الذي هو أثر آخر له؛ اسم القطع.. إلى غير ذلك من الإضافات العارضة له بالقياس إلى آثاره اللازمة له؛ وهذا أمر مطرد في آثاره الطبيعية؛ وأما الآثار التي له مدخل في وجودها في الجملة من غير إيجاب لها تترتب عليه تارة؛ وتفارقه أخرى؛ بحسب وجود أسبابها الموجبة لها؛ وعدمها؛ كالآثار الاختيارية الصادرة عن مؤثراتها بواسطة كونه داعيا إليها؛ فحيث كانت تلك الآثار مستقلة في أنفسها؛ مستندة إلى مؤثراتها؛ غير لازمة له لزوم الآثار الطبيعية التابعة له؛ لم تعد من متمماته؛ ولم تعتبر الإضافة العارضة له بحسبها داخلة في مدلوله؛ كالإضافة العارضة للأمر؛ بحسب امتثال المأمور؛ والإضافة العارضة للدعوة؛ بحسب إجابة المدعو؛ فإن الامتثال؛ والإجابة - وإن عدا من آثار الأمر والدعوة؛ باعتبار ترتبهما عليهما غالبا؛ لكنهما حيث كانا فعلين اختياريين للمأمور؛ والمدعو؛ مستقلين في أنفسهما؛ غير لازمين للأمر والدعوة - لم يعدا من متمماتهما؛ ولم يعتبر الإضافة العارضة لهما بحسبهما داخلة في مدلول اسم الأمر والدعوة؛ بل جعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلق بالمأمور والمدعو؛ سواء وجد الامتثال والإجابة أو لا؛ إذا تمهد هذا نقول: كما أن الامتثال والإجابة فعلان مستقلان في أنفسهما؛ صادران عن المدعو والمأمور باختيارهما؛ غير لازمين للأمر والدعوة لزوم الآثار الطبيعية التابعة للأفعال الموجبة لها - وإن كانا مترتبين عليهما في الجملة -؛ كذلك هدى المهدي - أي توجهه إلى ما ذكر من المسلك - فعل مستقل له؛ صادر عنه باختياره؛ غير لازم للهداية - أعني التوجيه إليه - لزوم ما ذكر من الآثار الطبيعية؛ وإن كان مترتبا عليها في الجملة؛ فلما لم يعدا من متممات الأمر والدعوة؛ ولم يعتبر الإضافة العارضة لهما بحسبهما داخلة في مدلولهما؛ علم أنه لم يعد الهدى اللازم من متممات الهداية؛ ولم يعتبر الإضافة العارضة لها بحسبه داخلة في مدلولها إن قيل: ليس الهدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما؛ فإن تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعو لا يقتضي إلا اتصافهما بكونهما مأمورا ومدعوا؛ وليس من ضرورته اتصافهما بالامتثال والإجابة؛ إذ لا تلازم بينهما وبين الأولين أصلا؛ بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية؛ فإن تعلقها بالمهدي يقتضي اتصافه به؛ لأن تعلق الفعل المتعدي المبني للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذ من المبني للمفعول قطعا؛ وهو مستلزم لاتصافه بمصدر الفعل اللازم؛ وهل هو إلا اعتبار وجود اللازم في مدلول المتعدي حتما؛ قلنا: كما أن تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعو لا يستدعي إلا اتصافهما بما ذكر؛ [ ص: 27 ] من غير تعرض للامتثال والإجابة إيجابا وسلبا؛ كذلك تعلق الهداية التي هي عبارة عن الدلالة المذكورة بالمهدي لا يستدعي إلا اتصافه بالمدلولية التي هي عبارة عن المصدر المأخوذ من المبني للمفعول؛ من غير تعرض لقبول تلك الدلالة؛ كما هو معنى الهدى اللازم؛ ولا لعدم قبوله؛ بل الهداية عين الدعوة إلى طريق الحق؛ والاهتداء عين الإجابة؛ فكيف يؤخذ في مدلولها؟ واستلزام الاتصاف بمصدر الفعل المتعدي المبني للمفعول؛ للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقا؛ إنما هو في الأفعال الطبيعية؛ كالمكسورية والانكسار؛ والمقطوعية والانقطاع؛ وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك؛ كما تحققته فيما سلف؛ إن قيل: التعلم من قبيل الأفعال الاختيارية؛ مع أنه معتبر في مدلول التعليم قطعا؛ فليكن الهدى مع الهداية كذلك؛ قلنا: ليس ذلك لكونه فعلا اختياريا على الإطلاق؛ ولا لكون التعليم عبارة عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل؛ فإن المعلم ليس بمستقل في ذلك؛ ففي إسناده إليه ضرب تجوز؛ بل لأن كلا منهما مفتقر في تحققه وتحصله إلى الآخر؛ فإن التعليم عبارة عن إلقاء المبادئ العلمية على المتعلم؛ وسوقها إلى ذهنه شيئا فشيئا؛ على ترتيب يقتضيه الحال؛ بحيث لا يساق إليه بعض منها إلا بعد تلقيه لبعض آخر؛ فكل منهما متمم للآخر؛ معتبر في مدلوله؛ وأما الهدى الذي هو عبارة عن التوجه المذكور ففعل اختياري؛ يستقل به فاعله؛ لا دخل للهداية فيه سوى كونها داعية إلى إيجاده باختياره؛ فلم يكن من متمماتها؛ ولا معتبرا في مدلولها؛ إن قيل: التعليم نوع من أنواع الهداية؛ والتعلم نوع من أنواع الاهتداء؛ فيكون اعتباره في مدلول التعليم اعتبارا للهدى في مدلول الهداية؛ قلنا: إطلاق الهداية على التعليم إنما هو عند وضوح المسلك؛ واستبداد المتعلم بسلوكه؛ من غير دخل للتعليم فيه؛ سوى كونه داعيا إليه؛ وقد عرفت جلية الأمر على ذلك التقدير؛ إن قيل: أليس تخلف الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم؛ فحيث لم يكن ذلك تعليما في الحقيقة؛ فليكن الهداية أيضا كذلك؛ وليحمل تسمية ما لا يستتبع الهدى بها على التجوز؛ قلنا: شتان بين التخلفين؛ فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه؛ كما أن تخلف الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك؛ وأما تخلف الهدى عن الهداية فليس لشائبة قصور من جهتها؛ بل إنما هو لفقد سببه الموجب له من جهة المهدي؛ بعد تكامل ما يتم من قبل الهادي؛ وبهذا التحرير اتضح طريق الهداية؛ وتبين أنها عبارة عن مطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال إلى البغية؛ بتعريف معالمه؛ وتبيين مسالكه؛ من غير أن يشترط في مدلولها الوصول؛ ولا القبول؛ وأن الدلالة المقارنة لهما - أو لأحدهما -؛ والمفارقة عنهما؛ كل ذلك - مع قطع النظر عن قيد المقارنة وعدمها - أفراد حقيقية لها؛ وأن ما في قوله (تعالى): إنك لا تهدي من أحببت ؛ وقوله (تعالى): ولو شاء لهداكم ؛ ونحو ذلك مما اعتبر فيه الوصول من قبيل المجاز؛ وانكشف أن الدلالات التكوينية المنصوبة في الأنفس؛ والآفاق؛ والبيانات التشريعية الواردة في الكتب السماوية على الإطلاق؛ بالنسبة إلى كافة البرية؛ برها وفاجرها؛ هدايات حقيقية فائضة من عند الله سبحانه؛ والحمد لله الذي هدانا لهذا؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

للمتقين : أي المتصفين بالتقوى حالا أو مآلا؛ وتخصيص الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره؛ المنتفعون بآثاره؛ وإن كان ذلك شاملا لكل ناظر؛ من مؤمن وكافر؛ وبذلك الاعتبار قال الله (تعالى): هدى للناس ؛ والمتقي اسم فاعل من باب الافتعال؛ من الوقاية؛ وهي فرط الصيانة؛ والتقوى في عرف الشرع عبارة عن كمال التوقي عما يضره في [ ص: 28 ] الآخرة ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: "جماع التقوى في قوله (تعالى): إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية.. وعن عمر بن عبد العزيز أنه: ترك ما حرم الله؛ وأداء ما فرض الله؛ وعن شهر بن حوشب: المتقي من يترك ما لا بأس به؛ حذرا من الوقوع فيما فيه بأس؛ وعن أبي يزيد أن التقوى هو التورع عن كل ما فيه شبهة؛ وعن محمد بن حنيف أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله (تعالى)؛ وعن سهل: المتقي من تبرأ عن حوله وقدرته؛ وقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك؛ ولا يفقدك حيث أمرك؛ وعن ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح؛ والسلطان الجائر؛ وعن أبي تراب: بين يدي التقوى خمس عقبات؛ لا يناله من لا يجاوزهن: إيثار الشدة على النعمة؛ وإيثار الضعف على القوة؛ وإيثار الذل على العزة؛ وإيثار الجهد على الراحة؛ وإيثار الموت على الحياة؛ وعن بعض الحكماء أنه: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون بحيث لو جعل ما في قلبه في طبق؛ فطيف به في السوق؛ لم يستحي ممن ينظر إليه؛ وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق؛ كما تزين علانيتك للخلق؛ والتحقيق أن للتقوى ثلاث مراتب: الأولى: التوقي عن العذاب المخلد بالتبرؤ عن الكفر؛ وعليه قوله (تعالى): وألزمهم كلمة التقوى ؛ والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل؛ أو ترك؛ حتى الصغائر عند قوم؛ وهو المتعارف بالتقوى في الشرع؛ وهو المعني بقوله (تعالى): ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ؛ والثالثة: أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق - عز وجل -؛ ويتبتل إليه بكليته؛ وهو التقوى الحقيقي المأمور به في قوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ؛ ولهذه المرتبة عرض عريض؛ يتفاوت فيه طبقات أصحابها؛ حسب تفاوت درجات استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة الإلهية؛ المبنية على الحكم الأبية؛ أقصاها ما انتهى إليه همم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - حيث جمعوا بذلك بين رياستي النبوة والولاية؛ وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج إلى معالم الأرواح؛ ولم يصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شئون الحق؛ لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية.

وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين؛ فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلها؛ فالمراد بهم المشارفون للتقوى مجازا؛ لاستحالة تحصيل الحاصل إيثاره على العبارة المعربة عن ذلك؛ للإيجاز. وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه (تعالى)؛ وتفخيم شأنهم؛ وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين؛ فإن عنى بالمتقين أصحاب الطبقة الأولى تعينت الحقيقة؛ وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز؛ لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقبة؛ وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة؛ فإنه إن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة؛ فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة؛ وإن عنى بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز؛ ولفظ "الهداية" حقيقة في جميع الصور؛ وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه؛ أو إرشادهم إلى الزيادة فيه؛ على أن يكون مفهومها داخلا في المعنى المستعمل فيه؛ فهو مجاز لا محالة؛ ولفظ "المتقين" حقيقة على كل حال؛ واللام متعلقة بهدى؛ أو بمحذوف وقع صفة له؛ أو حالا منه؛ ومحل "هدى" الرفع؛ على أنه خبر لمبتدإ محذوف - أي: هو هدى -؛ أو خبر مع "ريب فيه"؛ لـ "ذلك الكتاب"؛ أو مبتدأ خبره الظرف المقدم؛ كما أشير إليه؛ أو النصب على الحالية من "ذلك"؛ أو من "الكتاب"؛ والعامل معنى الإشارة؛ أو من الضمير في "فيه"؛ والعامل ما في الجار [ ص: 29 ]

والمجرور من معنى الفعل المنفي؛ كأنه قيل: لم يحصل فيه الريب حال كونه هاديا؛ على أنه قيد للنفي لا للمنفي؛ وحاصله: انتفى الريب فيه حال كونه هاديا؛ وتنكيره للتفخيم؛ وحمله على "الكتاب"؛ إما للمبالغة؛ كأنه نفس الهدى؛ أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل؛ هذا.. والذي يستدعيه جزالة التنزيل في شأن ترتيب هذه الجمل أن تكون متناسقة؛ تقرر اللاحقة منها السابقة؛ ولذلك لم يتخلل بينها عاطف؛ فـ "الـم"؛ جملة برأسها؛ على أنها خبر لمبتدإ مضمر؛ أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها؛ دالة على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يؤلفون منه كلامهم؛ و"ذلك الكتاب"؛ جملة ثانية مقررة لجهة التحدي؛ لما دلت عليه من كونه منعوتا بالكمال الفائق؛ ثم سجل على غاية فضله بنفي الريب فيه؛ إذ لا فضل أعلى مما للحق واليقين؛ و"هدى للمتقين"؛ مع ما يقدر له من المبتدإ جملة مؤكدة لكونه حقا لا يحوم حوله شائبة شك ما؛ ودالة على تكميله بعد كماله؛ أو يستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول؛ فإنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به؛ من حيث إنه من جنس كلامهم؛ وقد عجزوا عن معارضته بالمرة؛ ظهر أنه الكتاب البالغ أقصى مراتب الكمال؛ وذلك مستلزم لكونه في غاية النزاهة عن مظنة الريب؛ إذ لا أنقص مما يعتريه الشك؛ وما كان كذلك كان لا محالة هدى للمتقين؛ وفي كل منها من النكت الرائقة؛ والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة شأنه؛ حسبما تحققته.

التالي السابق


الخدمات العلمية