صفحة جزء
فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين

ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصال ، فلم يقلعوا عما كانوا عليه ، بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك ; لقوله تعالى : فلما عتوا عن ما نهوا عنه ; أي : تمردوا وتكبروا ، وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه .

قلنا لهم كونوا قردة خاسئين صاغرين أذلاء بعداء عن الناس ، والمراد بالأمر هو الأمر التكويني لا القولي ، وترتيب المسخ على العتو عن الانتهاء عما نهوا عنه ; للإيذان بأنه ليس لخصوصيات الحوت ، بل العمدة في ذلك هو مخالفة الأمر ، والاستعصاء عليه تعالى .

وقيل : المراد بالعذاب البئيس : هو المسخ ، والجملة الثانية تقرير للأولى . روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت ، وهو المعني بقوله تعالى : إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ; فابتلوا به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت كأنها المخاض ، لا يرى وجه الماء لكثرتها ، ولا تأتيهم في سائر الأيام ، فكانوا على ذلك برهة من الدهر ، ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا حياضا سهلة الورود صعبة الصدور ; ففعلوا ، فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد .

وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى [ ص: 287 ] خشبة في الساحل ، ثم شواه يوم الأحد ، فوجد جاره ريح السمك فتطالع في تنوره ، فقال له : إني أرى الله سيعذبك ; فلما لم يره عذب ، أخذ في يوم السبت القابل حوتين ، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم استمروا على ذلك ، فصادوا وأكلوا ، وملحوا وباعوا ، وكانوا نحوا من سبعين ألفا ، فصار أهل القرية أثلاثا ، ثلث استمروا على النهي ، وثلث ملوا التذكير وسئموه ، وقالوا للواعظين : لم تعظون ... إلخ ، وثلث باشروا الخطيئة ; فلما لم ينتهوا قال المسلمون : نحن لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار ، للمسلمين باب وللمعتدين باب .

ولعنهم داود عليه السلام ، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم لشأنا فعلوا الجدار ، فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسباءهم من الإنس وهم لا يعرفونها ، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه فيبكي ، فيقول له نسيبه : ألم ننهكم ، فيقول القرد برأسه : بلى ، ثم ماتوا عن ثلاث .

وقيل : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، وعن مجاهد رضي الله عنه : مسخت قلوبهم . وقال الحسن البصري : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة ، هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم ، فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ، ولكن الله تعالى جعل موعدا والساعة أدهى وأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية