صفحة جزء
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين

فسيحوا السياحة والسيح الذهاب في الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشيئة، كسيح الماء على موجب الطبيعة، ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره، وزيادة قوله عز وجل: في الأرض لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها، والمراد: إباحة ذلك لهم وتخليتهم وشأنهم من الاستعداد للحرب، أو تحصين الأهل والمال، وتحصيل المهاب أو غير ذلك لا تكليفهم بالسياحة فيها، وتلوين الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهه إليهم - مع حصول المقصود بصيغة أمر الغائب أيضا - للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسما لمادة تعللهم بالغفلة، وقطعا لشأفة اعتذارهم بعدم الاستعداد، وإيثار صيغة الأمر - مع تسني إفادة ذلك المعنى بطريق الإخبار أيضا كأن يقال مثلا: فلكم أن تسيحوا أو نحو ذلك - لإظهار كمال القوة والغلبة، وعدم الاكتراث [ ص: 41 ] لهم ولاستعدادهم، فكأن ذلك أمر مطلوب منهم، والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما تؤذن به البراءة المذكورة من الحراب، على أن الأول مترتب على نفسه والثاني - بكلا متعلقيه - على عنوان كونه من الله العزيز، لا لترتيب الأول عليه والثاني على الأول، كما في قوله تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا ... إلخ، كأنه قيل: هذه براءة موجبة لقتالكم، فاسعوا في تحصيل العدد والأسباب، وبالغوا في إعتاد العتاد من كل باب.

أربعة أشهر واعلموا أنكم بسياحتكم في أقطار الأرض في العرض والطول، وإن ركبتم متن كل صعب وذلول غير معجزي الله أي: لا تفوتونه بالهرب والتحصن وأن الله وضع الاسم الجليل موضع المضمر؛ لتربية المهابة، وتهويل أمر الإخزاء، وهو الإذلال بما فيه فضيحة وعارمخزي الكافرين أي: مخزيكم ومذلكم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب، وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك، والإشعار بأن علة الإخزاء هي كفرهم، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين، فيدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا، والمراد "بالأشهر الأربعة": هي الأشهر الحرم التي علق القتال بانسلاخها، فقيل: هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر، وجعلت حرما لحرمة قتالهم فيها، أو لتغليب ذي الحجة والمحرم على البقية، وقيل: من عشر ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأول؛ لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في العام القابل في ذي الحجة، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض».

روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - على موسم سنة تسع، ثم أتبعه عليا - رضي الله تعالى عنه - على العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤدي عني إلا رجل مني» وذلك لأن عادة العرب أن لا يتولى أمر العهد والنقض على القبيلة إلا رجل منها، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف، فقال: هذا رغاء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما لحقه، قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور فمضيا، فلما كان قبل يوم التروية خطب أبو بكر - رضي الله عنه - وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي - رضي الله عنه - يوم النحر عند جمرة العقبة، فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده.

التالي السابق


الخدمات العلمية