صفحة جزء
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم

إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ترغيب للمؤمنين في الجهاد ببيان [ ص: 105 ] فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها إيذانا بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم، ثم إنه لم يقل: بالجنة، بل قيل: بأن لهم الجنة مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم، كأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم.

وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى، وأن تمام الاستعارة موقوف على ذلك، إذ لو قيل: بالجنة لاحتمل كون الشراء حقيقة؛ لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها - فليس بشيء؛ لأن مناط دلالة ما عليه النظم الكريم على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن - فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال - بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في الدنيا، ولو سلم ذلك يكون العوض الجنة الموعود بها لا الوعد بها.

يقاتلون في سبيل الله استئناف، لكن لا لبيان ما لأجله الشراء، ولا لبيان نفس الاشتراء - لأن قتالهم في سبيل الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم، بل هو بذل لهما في ذلك - بل لبيان البيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور، كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، وهو بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه، وتعريض لهما للهلاك.

وقوله تعالى: فيقتلون ويقتلون بيان لكون القتال في سبيل الله بذلا للنفس، وأن المقاتل في سبيله باذل لها، وإن كانت سالمة غانمة، فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما، ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة، بل بطريق وصف الكل بحال البعض، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم، بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا، كما إذا وجدت المضاربة، ولم يوجد القتل من أحد الجانيين، أو لم توجد المضاربة أيضا، فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد.

وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس، وقرئ بتقديم المبني للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في الباب وإيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى، بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قيل في حقهم:


لا يفرحون إذا نالت رماحهم قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا     لا يقطع الطعن إلا في نحورهم
وما لهم عن حياض الموت تهليل



وقيل: في يقاتلون... إلخ، معنى الأمر، كما في قوله تعالى: وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .

وعدا عليه مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلا حقا نعت لـ(وعدا) والظرف حال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له، وقوله تعالى: في التوراة والإنجيل والقرآن متعلق بمحذوف وقع كما هو مثبت في القرآن.

ومن أوفي بعهده من الله اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد على نهج المبالغة في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل واف؛ [ ص: 106 ] فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره عنهم، فكيف بجناب الخلاق الغني عن العالمين جل جلاله، وسبك التركيب - وإن كان على إنكار أن يكون أحد أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها - لكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها قطعا، فإذا قيل: من أكرم من فلان؟ أو لا أفضل منه، فالمراد به حتما: أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل.

فاستبشروا التفات إلى الخطاب تشريفا لهم على تشريف، وزيادة لسرورهم على سرور، والاستبشار إظهار السرور، والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد، والفاء لترتيب الاستبشار، أو الأمر به على ما قبله، أي: فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة، وإنما قيل: ببيعكم مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة؛ لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع، وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء؛ لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم، والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم.

وقوله تعالى: الذي بايعتم به لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايرا لسائر البياعات، فإنه بيع للفاني بالباقي؛ ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى.

عن الحسن - رضي الله عنه -: أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها.

روي أن الأنصار لما بايعوه - صلى الله عليه وسلم - على العقبة قال عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال صلى الله عليه وسلم: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم" قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "لكم الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيله.

ومر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابي وهو يقرؤها، قال: كلام من؟ قال: كلام الله عز وجل، قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو واستشهد.

وذلك أي: الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه، وما في ذلك من معنى البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذي أمروا بالاستبشار به، ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم، أو يجعل فوزا في نفسه، فالجملة على الأول تذييل للآية الكريمة، وعلى الثاني لقوله تعالى: "فاستبشروا" مقرر لمضمونه.

التالي السابق


الخدمات العلمية