صفحة جزء
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

وإذا تتلى عليهم التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم، وتوجيها للخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من تكذيب الرسول، والكفر بالآيات البينات، وغير ذلك، كدأب من قبلهم من القرون المهلكة، وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة آياتنا الدالة على حقية التوحيد وبطلان الشرك، والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه بينات حال كونها واضحات الدلالة على ذلك، وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل - للإشعار بعدم الحاجة لتعين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو دون التالي.

قال الذين لا يرجون لقاءنا وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما في حيز الصلة للعظيمة المحكية عنهم، وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفهم من عقابه تعالى يوم اللقاء لإنكارهم له، ولما هو من مبادئه من البعث، وذما لهم بذلك، أي: قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله، صلى الله عليه وسلم - وإنما لم يذكر إيذانا بتعينه -: ائت بقرآن غير هذا أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى نفسها فقط؛ قصدا إلى إخراج الكل من البين، أي: ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب والجزاء، وما نكرهه من ذم آلهتنا، ومعايبها، والوعيد على عبادتها.

أو بدله بتغيير ترتيبه بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى خالية عنها، وإنما قالوه كيدا وطمعا في المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به.

قل لهم: ما يكون لي أي: ما يصح وما يستقيم لي ولا يمكنني أصلا أن أبدله من تلقاء نفسي أي: من قبل نفسي، وهو مصدر استعمل ظرفا، وقرئ بفتح التاء.

وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها، وأن التصدي لذلك مع كونه ضائعا ربما يعد من قبيل المجاراة مع السفهاء، إذا لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء؛ ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى.

إن أتبع أي: ما أتبع في شيء مما آتي وأذر إلا ما يوحى إلي من غير تغيير له في شيء أصلا على معنى قصر حاله - صلى الله عليه وسلم - على اتباع ما يوحى إليه لا قصر اتباعه على ما يوحى إليه، كما هو المتبادر من ظاهر العبارة، كأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي، وقد مر تحقيق المقام في سورة الأنعام، وهو تعليل لصدر الكلام، فإن من شأنه اتباع الوحي على ما هو عليه لا يستبد بشيء دونه قطعا، وفيه جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض، ورد لما عرضوا به - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 129 ] بهذا السؤال من أن القرآن كلامه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قيد التبديل في الجواب بقوله: (من تلقاء نفسي) وسماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله تعالى: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فإنه تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل، واقتصار أمره - صلى الله عليه وسلم - على اتباع الوحي، أي: أخاف إن عصيته تعالى بتعاطي ما ليس لي من التبديل من تلقاء نفسي والإعراض عن اتباع الوحي عذاب يوم عظيم، هو يوم القيامة، أو يوم اللقاء الذي لا يرجونه، وفيه إشعار بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراح.

والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم - لتهويل أمر العصيان، وإظهار كمال نزاهته - صلى الله عليه وسلم - عنه، وإيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعه، ولا مساغ لحمل مقترحهم على التبديل والإتيان بقرآن آخر من جهة الوحي بتفسير قوله تعالى: (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) بأنه لا يتسهل لي أن أبدله بالاستدعاء من جهة الوحي، ما أتبع إلا ما يوحى إلي من غير صنع ما من الاستدعاء وغيره من قبلي - لأنه يرده التعليل المذكور، لا لأن المقترح حينئذ ليس فيه معصية أصلا كما توهم، فإن استدعاء تبديل الآيات النازلة حسبما تقتضيه الحكمة التشريعية بعضها ببعض - لا سيما بموجب اقتراح الكفرة - مما لا ريب في كونه معصية، بل لأنه ليس فيه معصية الافتراء مع أنها المقصودة بما ذكر في التعليل، ألا يرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين، فإنه صريح في أن مقترحهم الإتيان بغير القرآن وتبديله بطريق الافتراء، وأن زعمهم في الأصل أيضا كذلك.

وقوله عز وجل:

التالي السابق


الخدمات العلمية