صفحة جزء
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين

قال مناجيا لربه عز سلطانه رب السجن الذي أوعدتني بالإلقاء فيه، وقرأ يعقوب: بالفتح على المصدر أحب إلى [ ص: 274 ] أي: آثر عندي؛ لأنه مشقة قليلة نافذة إثرها راحات جليلة أبدية مما يدعونني إليه من مؤاتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذاب الأليم، وهذا الكلام منه - عليه السلام - مبني على ما مر من انكشاف الحقائق لديه، وبروز كل منها بصورتها اللائقة بها، فصيغة التفضيل ليست على بابها؛ إذ ليس له شائبة محبة لما دعته إليه، وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة خوفا من الحبس، والاقتصار على ذكر السجن من حيث إن الصغار من فروعه ومستتبعاته، وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأن النسوة رغبته في مطاوعتها وخوفته من مخالفتها، وقيل: دعونه إلى أنفسهن، وقيل: إنما ابتلي - عليه السلام - بالسجن لقوله هذا، وكان الأولى به أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من كان يسأل الصبر.

وإلا تصرف أي: إن لم تصرف عني كيدهن في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة أصب إليهن أي: أمل إلى إجابتهن، أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية، وهذا فزع منه - عليه السلام - إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله - عز وجل - وسلب القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن، والصبوة الميل إلى الهوى، ومنه الصبا؛ لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها، وقرئ أصب إليهن من الصبابة وهي رقة الشوق.

وأكن من الجاهلين الذين لا يعملون بما يعلمون؛ لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواء، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح؛ لأن الحكيم لا يفعل القبيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية