صفحة جزء
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .

فهزموهم ؛ أي: كسروهم بلا مكث؛ بإذن الله ؛ بنصره؛ وتأييده؛ إجابة لدعائهم؛ وإيثار هذه الطريقة على طريقة قوله - عز وجل -: فآتاهم الله ثواب الدنيا ؛ إلخ.. للمحافظة على مضمون قولهم: "غلبت فئة كثيرة بإذن الله"؛ وقتل داود جالوت ؛ كان "إيشى"؛ أبو داود؛ في عسكر طالوت؛ معه ستة من بنيه؛ وكان داود - عليه السلام - سابعهم؛ وكان صغيرا؛ يرعى الغنم؛ فأوحى الله (تعالى) إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت؛ فطلبه من أبيه؛ فجاء؛ وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار؛ قال له كل منها: احملنا؛ فإنك بنا تقتل جالوت؛ فحملها في مخلاته؛ قيل: لما أبطأ على أبيه خبر إخوته في المصاف؛ أرسل داود إليهم ليأتيه بخبرهم؛ فأتاهم وهم في القراع؛ وقد برز جالوت بنفسه إلى البراز؛ ولا يكاد يبارزه أحد؛ وكان ظله ميلا؛ فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فزجروه؛ فنحا ناحية أخرى؛ ليس فيها إخوته؛ وقد مر به طالوت وهو يحرض الناس على القتال؛ فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه بنتي؛ وأعطيه شطر مملكتي؛ فبرز له داود؛ فرماه بما معه من الأحجار؛ بالمقلاع؛ فأصابه في صدره؛ فنفذ الأحجار منه؛ وقتلت بعده ناسا كثيرا؛ وقيل: إنما كلمته الأحجار عند بروزه لجالوت؛ في المعركة؛ فأنجز له طالوت ما وعده؛ وقيل: إنه حسده؛ وأخرجه من مملكته؛ ثم ندم على ما صنعه؛ فذهب يطلبه إلى أن قتل؛ وملك داود - عليه السلام -؛ وأعطي النبوة؛ وذلك قوله (تعالى): وآتاه الله الملك ؛ أي: ملك بني إسرائيل؛ في مشارق الأرض المقدسة؛ ومغاربها؛ والحكمة ؛ أي: النبوة؛ ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة قبله؛ إلا له؛ بل كان الملك في سبط؛ والنبوة في سبط [ ص: 245 ] آخر؛ وما اجتمعوا قبله على ملك قط؛ وعلمه مما يشاء ؛ أي: مما يشاء الله (تعالى) تعليمه إياه؛ لا مما يشاء داود عليه السلام؛ كما قيل؛ لأن معظم ما علمه (تعالى) إياه مما لا يكاد يخطر ببال أحد؛ ولا يقع في أمنية بشر؛ ليتمكن من طلبه؛ ومشيئته؛ كالسرد بإلانة الحديد؛ ومنطق الطير؛ والدواب؛ ونحو ذلك من الأمور الخفية؛ ولولا دفع الله الناس بعضهم ؛ الذين يباشرون الشر والفساد؛ ببعض ؛ آخر منهم؛ بردهم عما هم عليه بما قدر الله (تعالى) من القتل؛ كما في القصة المحكية؛ أو غيره؛ وقرئ: "دفاع الله"؛ على أن صيغة المغالبة للمبالغة؛ لفسدت الأرض ؛ وبطلت منافعها؛ وتعطلت مصالحها؛ من الحرث؛ والنسل؛ وسائر ما يعمر الأرض؛ ويصلحها؛ وقيل: لولا أن الله ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بعيثهم؛ وقتلهم المسلمين؛ أو: لو لم يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر؛ ونزلت السخطة؛ فاستؤصل أهل الأرض قاطبة؛ ولكن الله ذو فضل ؛ عظيم لا يقادر قدره؛ على العالمين ؛ كافة؛ وهذا إشارة إلى قياس استثنائي؛ مؤلف من وضع نقيض المقدم؛ منتج لنقيض التالي؛ خلا أنه قد وضع ما يستتبعه؛ ويستوجبه؛ أعني كونه (تعالى) ذا فضل على العالمين؛ إيذانا بأنه (تعالى) متفضل في ذلك الدفع؛ من غير أن يجب عليه ذلك؛ وأن فضله (تعالى) غير منحصر فيه؛ بل هو فرد من أفراد فضله العظيم؛ كأنه قيل: ولكنه (تعالى) يدفع فساد بعضهم ببعض؛ فلا تفسد الأرض؛ وتنتظم به مصالح العالم؛ وتنصلح أحوال الأمم.

التالي السابق


الخدمات العلمية