صفحة جزء
وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم

وليستعفف إرشاد للعاجزين عن مبادئ النكاح وأسبابها إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم بعد بيان جواز مناكحة الفقراء ، أي : ليجتهد في العفة وقمع الشهوة . الذين لا يجدون نكاحا أي : أسباب نكاح أولا يتمكنون مما ينكح به من المال . حتى يغنيهم الله من فضله عدة كريمة بالتفضل عليه بالغنى ، ولطف لهم في استعفافهم وتقوية لقلوبهم ، وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء .

والذين يبتغون الكتاب بعد ما أمر بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر بكتابة من ستحقها منهم ، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ، أي : الذين يطلبون المكاتبة . مما ملكت أيمانكم عبدا كان أو أمة ، وهي أن يقول المولى لمملوكه : كاتبتك على كذا درهما تؤديه إلي وتعتق ، ويقول المملوك : قبلته أو نحو ذلك ، فإن أداه إليه عتق ، قالوا : معناه : وكتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك ، أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق عنده . والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول ، ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه إلا بالتزام البدل من طرف العبد ، كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء ، فكما أن قول البائع : بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ، ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي . كذلك قول المولى : كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة ، أي : إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ، ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله ، فإذا قبل تم العقد . ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبره فكاتبوهم والفاء لتضمنه معنى الشرط ، أو النصب على أنه مفعول لمضمر يفسره هذا ، والأمر فيه للندب لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها ، ويجوز حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم ، وعند الشافعي - رحمه الله - لا يجوز إلا مؤجلا منهما ، وقد فصل في موضعه .

إن علمتم فيهم خيرا أي : أمانة ورشدا وقدرة على أداء البدل بتحصيله من وجه حلال وصلاحها لا يؤذي الناس بعد العتق وإطلاق العنان .

وآتوهم من مال الله الذي آتاكم أمر للوالي ببذل شيء من أموالهم ، وفي حكمه حط شيء [ ص: 173 ] من مال الكتابة ، ويكفي في ذلك أقل ما يتمول . وعن علي رضي الله عنه : حط الربع ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الثلث وهو للندب عندنا ، وعند الشافعي للوجوب ، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم : "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما ، وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا ، وأيضا فهو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع ، وقيل : معنى آتوهم : أقرضوهم ، وقيل : هو أمر لهم بأن ينفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا ، وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإينائه إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به كما في قوله تعالى : وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها ، وقيل : هو أمر بإعطاء سهمهم من الصدقات فالأمر للوجوب حتما ، والإضافة والوصف لتعيين المأخذ ، وقيل : هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم ، ويحل ذلك للمولى وإن كان غنيا لتبدل العنوان حسبما ينطق به قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة : "هو لها صدقة ولنا هدية" .

ولا تكرهوا فتياتكم أي : إماءكم ، فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة ، وعلى ذلك مبنى قوله صلى الله عليه وسلم : "ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي" ولهذه العبارة في هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله تعالى : على البغاء وهو الزنا من حيث صدوره عن النساء لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر .

وقوله تعالى : إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه ، كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة ، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح ، فإن عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرهن على الزنا وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنـزلت . وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ما لا يخفى ، فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من امائه فضلا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما إرادتهن التعفف ، فتأمل ودع عنك ما قيل من أن ذلك لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن ، وما قيل من أنه إن جعل شرطا للنهي لا يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي لامتناع المنهي عنه ، فإنهما بمعزل من التحقيق . وإيثار كلمة "إن" على "إذا" مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك ، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ؟ وتعليله بأن الإرادة المذكورة منهن في حيز الشاذ النادر مع خلوه عن الجدوى بالكلية يأباه اعتبار تحققها إباء ظاهرا .

وقوله تعالى : لتبتغوا عرض الحياة الدنيا قيد للإكراه ، لكن لا باعتبار أنه مدار النهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم كما قبله لهم تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير ، أي : لا تفعلوا ما أنتم عليه من اكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال ، فالمراد بالابتغاء : الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ [ ص: 174 ] هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه .

ومن يكرهن إلخ جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكروهات عن عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة ، أي : ومن يكرهن على ما ذكر من البغاء فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم أي : لهن كما وقع في مصحف ابن مسعود وعليه قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، وكما ينبئ عنه قوله تعالى : "من بعد إكراههن" أي : كونهن مكرهات ، على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة ، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول : لهن والله لهن والله . في تخصيصها بهن وتعيين مدارهما مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية ، كأنه قيل : لا للمكروه ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالا ، أو معهن إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم ، إما باعتبار أنهن وإن كن مكروهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ما بحكم الجبلة البشرية ، وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة ، وإما لغاية تهويل أمر الزنا ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرهين ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن ، فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية