صفحة جزء
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون .

وبشر الذين آمنوا : أي بأنه منزل من عند الله - عز وجل -؛ وهو معطوف على الجملة السابقة؛ لكن لا على أن المقصود عطف نفس الأمر حتى يطلب له مشاكل يصح عطفه عليه؛ بل على أنه عطف قصة المؤمنين بالقرآن؛ ووصف ثوابهم؛ على قصة الكافرين به؛ وكيفية عقابهم؛ جريا على السنة الإلهية؛ من شفع الترغيب بالترهيب؛ والوعد بالوعيد؛ وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين؛ وقرئ: "وبشر"؛ على صيغة الفعل مبنيا للمفعول؛ عطفا على أعدت؛ فيكون استئنافا؛ وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان؛ والعمل الصالح؛ لكن لا لذاتهما؛ فإنهما لا يكافئان النعم السابقة؛ فضلا عن أن يقتضيا ثوابا فيما يستقبل؛ بل بجعل الشارع؛ ومقتضى وعده؛ وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث؛ بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل؛ لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان؛ وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر. والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقيل: لكل من يتأتى منه التبشير؛ كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "بشر المشائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة"؛ فإنه - عليه الصلاة والسلام - لم يأمر بذلك واحدا بعينه؛ بل كل أحد ممن يتأتى منه ذلك؛ وفيه رمز إلى أن الأمر لعظمه؛ وفخامة شأنه حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه. والبشارة: الخبر السار؛ الذي يظهر به أثر السرور في البشرة؛ وتباشير الصبح: أوائل ضوئه.

وعملوا الصالحات : الصالحة كالحسنة في الجريان مجرى الاسم؛ وهي كل ما استقام من الأعمال؛ بدليل العقل والنقل؛ واللام للجنس؛ والجمع لإفادة أن المراد بها جملة من الأعمال الصالحة؛ التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورة الكريمة؛ وطائفة منها متفاوتة؛ حسب تفاوت حال المكلفين في مواجب التكليف؛ وفي عطف العمل على الإيمان دلالة على تغايرهما؛ وإشعار بأن مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين؛ فإن الإيمان أساس؛ والعمل الصالح كالبناء عليه؛ ولا غناء بأس لا بناء به

أن لهم جنات : منصوب بنزع الخافض؛ وإفضاء الفعل إليه؛ أو مجرور بإضماره؛ مثل: الله لأفعلن. والجنة هي المرة من مصدر [ ص: 69 ] "جنه"؛ إذا ستره؛ تطلق على النخل؛ والشجر المتكاثف؛ المظلل بالتفاف أغصانه؛ قال زهير:


كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا



أي: نخلا طوالا؛ كأنها لفرط تكاثفها والتفافها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفس السترة؛ وعلى الأرض ذات الشجر؛ قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل؛ والفردوس ما فيه الكرم؛ فحق المصدر حينئذ أن يكون مأخوذا من الفعل المبني للمفعول؛ وإنما سميت دار الثواب بها - مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور - لما أنها مناط نعيمها؛ ومعظم ملاذها. وجمعها مع التنكير لأنها سبع؛ على ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما-: جنة الفردوس؛ وجنة عدن؛ وجنة النعيم؛ ودار الخلد؛ وجنة المأوى؛ ودار السلام؛ وعليون ؛ وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة؛ بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.

تجري من تحتها الأنهار : في حيز النصب على أنه صفة "جنات"؛ فإن أريد بها الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر؛ وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فلا بد من تقدير مضاف؛ أي: من تحت أشجارها؛ وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل. عن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. واللام في "الأنهار" للجنس؛ كما في قولك: لفلان بستان؛ فيه الماء الجاري؛ والتين؛ والعنب؛ أو عوض عن المضاف إليه؛ كما في قوله (تعالى): واشتعل الرأس شيبا ؛ أو للعهد؛ والإشارة إلى ما ذكر في قوله - عز وعلا -: أنهار من ماء غير آسن ؛ الآية.. و"النهر" بفتح الهاء وسكونها: المجرى الواسع؛ فوق الجدول؛ ودون البحر؛ كالنيل؛ والفرات؛ والتركيب للسعة؛ والمراد بها ماؤها؛ على الإضمار؛ أو على المجاز اللغوي؛ أو: المجاري أنفسها؛ وقد أسند إليها الجريان مجازا عقليا؛ كما في "سال الميزاب".

كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل : صفة أخرى لـ "جنات"؛ أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها؛ وهذا وصف لها باعتبار أهلها المتنعمين بها؛ أو خبر مبتدإ محذوف؛ أو جملة مستأنفة؛ كأنه حين وصفت الجنات بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامع: أثمارها كثمار جنات الدنيا أو لا؟ فبين حالها؛ و"كلما" نصب على الظرفية؛ و"رزقا" مفعول به؛ و"من" الأولى؛ والثانية؛ للابتداء؛ واقعتان موقع الحال؛ كأنه قيل: كل وقت رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات؛ مبتدأ من ثمرة؛ على أن الرزق مقيد بكونه مبتدأ من الجنات؛ وابتداؤه منها مقيد بكونه مبتدأ من ثمرة؛ فصاحب الحال الأولى "رزقا"؛ وصاحب الثانية ضميره المستكن في الحال؛ ويجوز كون "من ثمرة" بيانا قدم على المبين؛ كما في قولك: رأيت منك أسدا؛ وهذا إشارة إلى ما رزقوا؛ وإن وقعت على فرد معين منه؛ كقولك - مشيرا إلى نهر جار -: هذا الماء لا ينقطع؛ فإنك إن أشرت إلى ما تعاينه بحسب الظاهر - لكنك إنما تعني بذلك النوع المعلوم المستمر - فالمعنى: هذا مثل الذي رزقناه من قبل؛ أي: من قبل هذا؛ في الدنيا؛ ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته؛ وإنما جعل ثمر الجنة كثمار الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه؛ فإن الطباع مائلة إلى المألوف؛ متنفرة عن غير معروف؛ وليتبين لها مزيته؛ وكنه النعمة فيه؛ إذ لو كان جنسا غير معهود لظن أنه لا يكون إلا كذلك؛ أو: مثل الذي رزقناه من قبل في الجنة؛ لأن طعامها متشابه الصور؛ كما يحكى عن الحسن - رضي الله عنه -: إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها؛ ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى؛ فيقول ذلك؛ فيقول الملك: كل؛ فاللون واحد؛ والطعم مختلف؛ أو كما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها؛ فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل [ ص: 70 ] الله (تعالى) مكانها مثلها"؛ والأول أنسب؛ لمحافظة عموم "كلما"؛ فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالة كل مرة رزقوا؛ لا فيما عدا المرة الأولى؛ يظهرون التبجح؛ وفرط الاستغراب؛ لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذة؛ مع اتحادهما في الشكل؛ واللون؛ كأنهم قالوا: هذا عين ما رزقناه في الدنيا؛ فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب؟ ولا يقدح فيه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسم؛ فإن ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما؛ من حيث اللذة؛ والحسن؛ لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلا؛ كيف لا.. وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعا؟ هذا.. وقد فسرت الآية الكريمة بأن مستلذات أهل الجنة - بمقابلة ما رزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات - متفاوتة الحال؛ فيجوز أن يريدوا: هذا ثواب الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات؛ ولا يساعده تخصيص ذلك بالثمرات؛ فإن الجنة؛ وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب.

وأتوا به متشابها : اعتراض مقرر لما قبله؛ والضمير المجرور على الأول راجع إلى ما دل عليه فحوى الكلام؛ مما رزقوا في الدارين؛ كما في قوله (تعالى): إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ أي: بجنسي الغني؛ والفقير؛ وعلى الثاني إلى الرزق.

ولهم فيها أزواج مطهرة : أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة؛ كالحيض؛ والدرن؛ ودنس الطبع؛ وسوء الخلق؛ فإن التطهر يستعمل في الأجسام؛ والأخلاق؛ والأفعال. وقرئ: "مطهرات"؛ وهما لغتان فصيحتان؛ يقال: "النساء فعلت؛ وفعلن"؛ و"هن فاعلة؛ وفواعل"؛ قال:


وإذا العذارى بالدخان تقنعت ...     واستعجلت نصب القدور فملت



فالجمع على اللفظ؛ والإفراد على تأويل الجماعة؛ وقرئ: "مطهرة" بتشديد الطاء؛ وكسر الهاء؛ بمعنى "متطهرة"؛ و"مطهرة" أبلغ من "طاهرة"؛ و"متطهرة"؛ للإشعار بأن مطهرا طهرهن؛ وما هو إلا الله - سبحانه وتعالى -؛ وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن؛ كما عند اغتسالهن؛ و"الزوج" يطلق على الذكر؛ والأنثى؛ وهو في الأصل اسم لما له قرين من جنسه؛ وليس في مفهومه اعتبار التوالد؛ الذي هو مدار بقاء النوع؛ حتى لا يصح إطلاقه على أزواج أهل الجنة؛ لخلودهم فيها؛ واستغنائهم عن الأولاد؛ كما أن المدارية لبقاء الفرد ليست بمعتبرة في مفهوم اسم الرزق؛ حتى يخل ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة.

وهم فيها خالدون : أي دائمون؛ والخلود في الأصل: الثبات المديد؛ دام أو لم يدم؛ ولذلك قيل للأثافي والأحجار: الخوالد؛ وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله: خلد؛ ولو كان وضعه الدوام لما قيد بالتأبيد في قوله - عز وعلا -: " خالدين فيها أبدا " ؛ ولما استعمل؛ حيث لا دوام فيه؛ لكن المراد ههنا الدوام قطعا؛ لما يفضي به من الآيات والسنن؛ وما قيل - من أن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية؛ معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال؛ والانفكاك - مداره قياس ذلك العالم الكامل؛ بما يشاهد في عالم الكون؛ والفساد؛ على أنه يجوز أن يعيدها الخالق (تعالى) بحيث لا يعتورها الاستحالة؛ ولا يعتريها الانحلال قطعا؛ بأن تجعل أجزاؤها متفاوتة في الكيفيات؛ متعادلة في القوى؛ بحيث لا يقوى شيء منها - عند التفاعل - على إحالة الآخر؛ متعانقة؛ متلازمة؛ لا ينفك بعضها عن بعض؛ وتبقى هذه النسبة منخفضة فيما بينها أبدا؛ لا يعتريها التغيير بالأكل؛ والشرب؛ والحركات؛ وغير ذلك؛ واعلم أن معظم اللذات الحسية - لما كان مقصورا على المساكن؛ والمطاعم؛ والمناكح؛ حسبما يقضي به الاستقراء؛ وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات؛ إذ كل نعمة؛ وإن جلت حيث كانت؛ في شرف الزوال؛ ومعرض الاضمحلال؛ فإنها منغصة؛ غير صافية من شوائب [ ص: 71 ]

الألم - بشر المؤمنين بها؛ وبدوامها؛ تكميلا للبهجة والسرور. اللهم وفقنا لمراضيك؛ وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقد والعمل.

التالي السابق


الخدمات العلمية