صفحة جزء
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .

كيف تكفرون بالله : التفات إلى خطاب المذكورين؛ مبني على إيراد ما عدد من [ ص: 77 ]

قبائحهم السابقة؛ لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع؛ والاستفهام إنكاري؛ لا بمعنى إنكار الوقوع؛ كما في قوله (تعالى): كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ؛ إلخ.. بل بمعنى إنكار الواقع؛ واستبعاده؛ والتعجيب منه؛ وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الكفر؛ بأن يقال: "أتكفرون؟"؛ لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا؛ فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني؛ وقوله - عز وجل -: وكنتم أمواتا ؛ إلى آخر الآية: حال من ضمير الخطاب في "تكفرون"؛ مؤكدة للإنكار؛ والاستبعاد؛ بما عدد فيها من الشؤون العظيمة؛ الداعية إلى الإيمان؛ الرادعة عن الكفر؛ من حيث كونها نعمة عامة؛ ومن حيث دلالتها على قدرة تامة؛ كقوله (تعالى): وقد خلقكم أطوارا . وكيف منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه؛ وبالحال عند الأخفش؛ أي: في أي حال؛ - أو: على أي حال - تكفرون به (تعالى)؛ والحال أنكم كنتم أمواتا؛ أي أجساما لا حياة لها؛ عناصر؛ وأغذية؛ ونطفا؛ ومضغا؛ مخلقة؛ وغير مخلقة؟ والأموات: جمع "ميت"؛ كـ "أقوال"؛ جمع "قيل"؛ وإطلاقها على تلك الأجسام باعتبار عدم الحياة مطلقا؛ كما في قوله (تعالى): بلدة ميتا ؛ وقوله (تعالى): وآية لهم الأرض الميتة .

فأحياكم ؛ بنفخ الأرواح فيكم؛ والفاء للدلالة على التعقيب؛ فإن الإحياء حاصل إثر كونهم أمواتا؛ وإن توارد عليهم في تلك الحالة أطوار مترتبة؛ بعضها متراخ عن بعض؛ كما أشير إليه آنفا؛ ثم يميتكم : أي عند انقضاء آجالكم؛ وكون الإماتة من دلائل القدرة ظاهر؛ وأما كونها من النعم فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية؛ التي هي الحيوان؛ والنعمة العظمى؛ والتراخي المستفاد من كلمة "ثم"؛ بالنسبة إلى زمان الإحياء؛ دون زمان الحياة؛ فإن زمان الإماتة غير متراخ عنه؛ ثم يحييكم ؛ بالنشور يوم ينفخ في الصور؛ أو للسؤال في القبور؛ وأيا ما كان فهو متراخ من زمان الإماتة؛ وإن كان إثر زمان الموت المستمر؛ ثم إليه ترجعون ؛ بعد الحشر؛ لا إلى غيره؛ فيجازيكم بأعمالكم؛ إن خيرا فخير؛ وإن شرا فشر؛ أو: إليه تنشرون من قبوركم للحساب؛ وهذه الأفعال - وإن كان بعضها ماضيا؛ وبعضها مستقبلا - لا يتسنى مقارنة شيء منها لما هو حال منه في الزمان؛ لكن الحال في الحقيقة هو العلم المتعلق بها؛ كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعة منه؟ ومآله التعجيب من وقوعه؛ مع تحقق ما ينفيه؛ وإنما نظم ما ينكرونه من الإحياء الأخير؛ والرجع؛ في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول؛ والإماتة؛ تنزيلا لتمكنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعة؛ منزلة العلم بذلك بالفعل؛ في إزاحة العلل؛ والأعذار؛ و"الحياة": حقيقة في القوة الحساسة؛ أو ما يقتضيها؛ وبها سمي الحيوان حيوانا؛ مجاز في القوة النامية؛ لكونها من طلائعها؛ وكذا فيما يخص الإنسان من العقل؛ والعلم؛ والإيمان؛ من حيث إنه كمالها وغايتها؛ و"الموت" بإزائها؛ يطلق على ما يقابل كل مرتبة من تلك المراتب؛ قال (تعالى): قل الله يحييكم ثم يميتكم ؛ وقال (تعالى): اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها ؛ وقال (تعالى): أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ؛ وعند وصفه (تعالى) بها يراد صحة اتصافه (تعالى) بالعلم؛ والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا؛ أو معنى قائم بذاته (تعالى)؛ مقتض لذلك؛ وقرئ: "ترجعون"؛ بفتح التاء؛ والأول هو الأليق بالمقام.

التالي السابق


الخدمات العلمية