صفحة جزء
4- سورة النساء

مائة وست وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا

(سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية)

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس خطاب يعم حكمه جميع المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم من الموجودين حينئذ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة عند انتظامهم فيه لكن لا بطريق الحقيقة، فإن خطاب المشافهة لا يتناول القاصرين عن درجة التكليف إلا عند الحنابلة بل إما بطريق تغليب الفريق الأول على الأخيرين وإما بطريق تعميم حكمه لهما بدليل خارجي، فإن الإجماع منعقد على أن آخر الأمة مكلف بما كلف به أولها كما ينبئ عنه قوله عليه السلام "الحلال ما جرى على لساني إلى يوم القيامة والحرام ما جرى على لساني إلى يوم القيامة" وقد فصل في موضعه، وأما الأمم الدارجة قبل النزول فلا حظ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال وأما اندراجهم في خطاب ما عداهما مما له دخل في تأكيد التكليف وتقوية الإيجاب فستعرف حاله، ولفظ الناس ينتظم الذكور والإناث حقيقة، وأما صيغة جمع المذكر في قوله تعالى: اتقوا ربكم فواردة على طريقة التغليب لعدم تناولها حقيقة للإناث عند غير الحنابلة، وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذكر من الدليل الخارجي وإن كان فيه مراعاة جانب الصيغة لكنه يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده، والمأمور به إما مطلق التقوى التي هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناء الجنس، أي: اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيا ما كان; فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريقة الترغيب [ ص: 138 ] والترهيب، وكذا وصف الرب بقوله تعالى: الذي خلقكم من نفس واحدة فإن خلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع لإنبائه عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التي من جملتها عقابهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته وأتم الزواجر عن كفران نعمته، وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرغة من أرومة واحدة هي نفس آدم عليه السلام من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة، وتعميم الخطاب في "ربكم" و"خلقكم" للأمم السالفة أيضا مع اختصاصه فيما قبل بالمأمورين بناء على أن تذكير شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل من مؤكدات الأمر بالتقوى وموجبات الامتثال به تفكيك للنظم الكريم مع الاستغناء عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا للتعرض لخلق الوسايط جميعا وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن للتعرض لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد نطق بذلك قوله عز وجل: وخلق منها زوجها فإنه مع ما عطف عليه صريح في ذلك وهو معطوف إما على مقدر ينبئ عنه سوق الكلام لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل: خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها إلخ ، وهو استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدإ وبيان كيفية خلقهم منه وتفصيل ما أجمل أولا أو صفة لـ "نفس" مفيدة لذلك، وإما على "خلقكم" داخل معه في حيز الصلة مقرر ومبين لما ذكر، وإعادة الفعل مع جواز عطف مفعوله على مفعول الفعل الأول كما في قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم إلخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت، فإن الأول بطريق التفريع من الأصل والثاني بطريق الإنشاء من المادة، فإنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام، روي أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده، وتأخير ذكر خلقها عن ذكر خلقهم لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها، وتقديم الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيته عليه السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وإيرادها بعنوان الزوجية تمهيد لما بعده من التناسل. وبث منهما أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها بطريق التوالد والتناسل. رجالا كثيرا نعت ل "رجالا" مؤكدة لما أفاده التنكير من الكثرة ،والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد. وقيل: هو نعت لمصدر مؤكد للفعل، أي: بثا كثيرا. ونساء أي: كثيرة وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور وإيثارهما على ذكورا وإناثا لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره. وقرئ "وخالق" "وباث" على حذف المبتدإ، أي: وهو خالق وباث. واتقوا الله الذي تساءلون به تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به، فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا أسألك بالله وأنشدك الله على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته. و"تساءلون" أصله: تتساءلون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفا وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. [ ص: 139 ] وقرئ "تسألون" من الثلاثي، أي: تسألون به غيركم وقد فسر به القراءة الأولى والثانية وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع كما في قولك: "رأيت الهلال وتراءيناه" وبه فسر "عم يتساءلون" على وجه. وقرئ "تسلون" بنقل حركة الهمزة إلى السين. والأرحام بالنصب عطفا على محل الجار والمجرور كقولك: "مررت بزيد وعمرا" وينصره قراءة تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل ويقولون: أسألك بالله وبالرحم، أو عطفا على الاسم الجليل،أى: اتقوا الله والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك والفراء والزجاج. وقد جوز الواحدي نصبه على الإغراء، أي: والزموا الأرحام وصلوها. وقرئ بالجر عطفا على الضمير المجرور وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره و"الأرحام" كذلك، أي: مما يتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليل على أن صلتها بمكان منه كما في قوله تعالى: ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا . وعنه عليه السلام "الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله". إن الله كان عليكم رقيبا أي: مراقبا، وهي صيغة مبالغة من رقب يرقب رقبا ورقبانا إذا أحد النظر لأمر يريد تحقيقه، أي: حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم بذلك، وهو تعليل للأمر ووجوب الامتثال به وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل.

التالي السابق


الخدمات العلمية