صفحة جزء
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما

إن الذين كفروا بآياتنا إن أريد بهم الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بالآيات: إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه أو ما يعم سائر معجزاته أيضا وإن أريد بهم الجنس المتناول لهم تناولا أوليا فالمراد بالآيات ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أوتيها الأنبياء عليهم السلام. سوف نصليهم نارا قال سيبويه: "سوف" كلمة تذكر للتهديد والوعيد وينوب عنها السين وقد يذكران في الوعد فيفيدان التأكيد، أي: ندخلهم نارا عظيمة هائلة. كلما نضجت جلودهم أي: احترقت و"كلما" ظرف زمان والعامل فيه بدلناهم جلودا غيرها من قبيل بدله بخوفه أمنا لا من قبيل يبدل الله سيئاتهم حسنات، أي: أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كان عينه مادة بأن يزال عنه الاحتراق ليعود إحساسه للعذاب، والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير "نصليهم" وقد جوز كونها لـ"نارا" على حذف العائد أي: كلما نضجت فيها جلودهم، فمعنى قوله تعالى: ليذوقوا العذاب ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: "أعزك الله"، وقيل: يخلق مكانه جلدا آخر والعذاب للنفس العاصية لا لآلة إدراكها. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس. وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ: أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ: عندي تفسيرها يبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر رضي الله عنه: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. وقال الحسن تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم. قيل لهم: عودوا فيعودون كما كانوا. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام" والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق ليس لبيان قلته بل [ ص: 192 ] لبيان أن إحساسهم بالعذاب في كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان لدوام الملابسة أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحاله مع الاحتراق ومع إبقاء أبدانهم على حالها مصونة عن الاحتراق أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق، ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب بصيانة بدنها عن الاحتراق. إن الله كان عزيزا لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحد. حكيما يعاقب من يعاقبه على وفق حكمته، والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتهويل الأمر وتربية المهابة وتعليل الحكم، فإن عنوان الألوهية مناط لجميع صفات كماله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية