صفحة جزء
درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما

وقوله تعالى: درجات بدل من "أجرا" بدل الكل مبين لكمية التفضيل. وقوله تعالى: منه متعلق بمحذوف وقع صفة لـ"درجات" دالة على فخامتها وجلالة قدرها أي: درجات كائنة منه تعالى. قال ابن محيريز: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا. وقال السدي: هي سبعمائة درجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" ويجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك: "ضربه أسواطا" أي: ضربات، كأنه قيل: فضلهم تفضيلات. وقوله تعالى: ومغفرة بدل من "أجرا" بدل البعض لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة، أي: مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون أيضا حتى تعد من خصائصهم. وقوله تعالى: ورحمة بدل الكل من "أجرا" مثل درجات، ويجوز أن يكون انتصابهما بإضمار فعلهما، أي: غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييده تارة ب "درجة" وأخرى ب "درجات" مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما في قوله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ كأنه قيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وحيث كان تحقق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين. قيل: وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسير ما أفاده [ ص: 222 ] التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل ولله در شأن التنزيل، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل: وفضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول والله سبحانه أعلم. هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غير أولي الضرر، وأما أولو الضرر فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفة وبأن الاستثناء من النفي إثبات، وأما عند من لا يقول بذلك فلا دلالة لعبارة النص عليه. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره ، وبعبارة أخرى إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة قال: نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر قالوا: هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قد ذكرت في قوله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى إلى قوله إذا نصحوا لله ورسوله وقيل: القاعدون الأول هم الأضراء والثاني غيرهم، وفيه من تفكيك النظم الكريم ما لا يخفى ولا ريب في أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجة الدنيوية. وكان الله غفورا رحيما تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة.

التالي السابق


الخدمات العلمية