صفحة جزء
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم

إن الذين كفروا كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة ، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاء أوانه ، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب ، فضلا عن نيل الثواب .

لو أن لهم ; أي : لكل واحد منهم ، كما في قوله تعالى : ولو أن لكل نفس ظلمت إلخ ، لا لجميعهم ; إذ ليس في ذلك هذه المرتبة من تهويل الأمر وتفظيع الحال .

ما في الأرض ; أي : من أصناف أموالها وذخائرها ، وسائر منافعها قاطبة ، وهو اسم أن ، و" لهم " خبرها ، ومحلها الرفع بلا خلاف ، خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء ، ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه ، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد " لو " . ولو قيل : الخبر محذوف ، ثم قيل : يقدر مقدما ; أي : لو ثابت كون ما في الأرض لهم ، وقيل : يقدر مؤخرا ; أي : لو كون ما في الأرض لهم ثابت . وعند المبرد ، والزجاج ، والكوفيين رفع على الفاعلية ، والفعل مقدر بعد لو ; أي : لو ثبت أن لهم ما في الأرض .

وقوله تعالى : جميعا توكيد للوصول ، أو حال منه ، ومثله بالنصب عطف عليه .

وقوله تعالى : معه ظرف وقع حالا من المعطوف ، والضمير راجع إلى الموصول ، وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب ، تحقيقا لكمال فظاعة الأمر مع ما فيه من نوع إشعار بكونهما شيئا واحدا ، وتمهيدا لإفراد الضمير الراجع إليهم .

واللام في قوله تعالى : ليفتدوا به متعلقة بما تعلق به خبر أن ، أعني : الاستقرار المقدر في " لهم " ، وبالخبر المقدر عند من يرى تقدير الخبر مقدما أو مؤخرا ، وبالفعل المقدر بعد " لو " على رأي المبرد ومن نحا نحوه . ولا ريب في أن مدار الافتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم ، وإن كان مستلزما له ، والباء في " به " متعلقة بالافتداء ، والضمير راجع إلى الموصول ومثله معا ، وتوحيده إما لما أشير إليه ، وإما لإجرائه مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : بذلك ، كما في قوله :


كأنه في الجلد توليع البهق



أي : كأن ذلك .

وقيل : وهو راجع إلى الموصول ، والعائد إلى المعطوف ، أعني : " مثله " محذوف ، كما حذف الخبر من قيار في قوله :

فإني وقيار بها لغريب

أي : وقيار أيضا غريب .

وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنه مفعول معه ناصبه الفعل المقدر بعد لو ، تفريعا على مذهب المبرد ومن رأى رأيه ، وأنت خبير بأن يؤدي إلى كون الرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه ; لأن المعنى على اعتبار المعية بين ما في الأرض ، ومثله في الكينونة لهم لا في ثبوت تلك الكينونة وتحقيقها ، ولا مساغ لجعل ناصبه الاستقرار المقدر في لهم ، لما أن سيبويه قد نص على اسم الإشارة ، وحرف الجر المتضمن للاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، وأن قوله : هذا لك وأباك ، قبيح ، وإن جوزه بعض النحاة في الظرف وحرف الجر .

وقوله تعالى : من عذاب يوم القيامة متعلق بالافتداء أيضا ; أي : لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع يومئذ .

ما تقبل منهم ذلك ، وهو جواب لو ، وترتيبه على كون ذلك لهم لأجل افتدائهم به ، من غير [ ص: 34 ] ذكر الافتداء بأن يقال : وافتدوا به ، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه ، للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر ، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر ، أو للمبالغة في تحقق الرد ، وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما في قوله تعالى : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده ، حيث لم يقل : فأتى به فرآه فلما ... إلخ . وما في قوله تعالى : وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه ، من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له ، والجملة الامتناعية بحالها خبر " إن الذين كفروا " .

والمراد : تمثيل لزوم العذاب لهم ، واستحالة نجاتهم منه بوجه من الوجوه المحققة والمفروضة ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام يقال للكافر : " أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به ، فيقول : نعم . فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك ، وهو كلمة الشهادة " .

وقوله تعالى : ولهم عذاب أليم تصريح بما أشير إليه بعدم قبول فديتهم لزيادة تقريره ، وبيان هوله وشدته . قيل : محله النصب على الحالية ، وقيل : الرفع عطفا على خبر إن ، وقيل : عطف على " إن الذين " ، فلا محل له كالمعطوف عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية