صفحة جزء
وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون

وحسبوا ألا تكون فتنة ; أي : حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما أتوا من الداهية الدهياء ، والخطة الشنعاء ، بلاء وعذاب .

وقرئ : ( لا تكون ) بالرفع على أن ( أن ) هي المخففة من ( أن ) ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وأصله : أنه لا تكون فتنة ، وتعليق فعل الحسبان بها ، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته ، وأن بما في حيزها ساد مسد مفعوليه .

فعموا عطف على " حسبوا " ، والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ; أي : أمنوا بأس الله تعالى ، فتمادوا في فنون الغي والفساد ، وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة ، وبينوا لهم مناهجه الواضحة .

وصموا عن استماع الحق الذي ألقوه عليهم ، ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا ، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل ، حين خالفوا أحكام التوراة ، وركبوا المحارم ، وقتلوا شعياء . وقيل : حبسوا أرمياء عليهما السلام ، لا إلى عبادتهم العجل كما قيل ، فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم ، لكنها في عصر موسى عليه السلام ، ولا تعلق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار .

ثم تاب الله عليهم حين تابوا ، ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر ، أسارى في غاية الذل والمهانة ، فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره ، ونجى بقايا بني إسرائيل من أسر بخت نصر بعد مهلكه ، وردهم إلى وطنهم ، وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فعمروه ثلاثين سنة ، فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه .

وقيل : لما ورث بهمن ابن إسفنديار الملك من جده كستاسف ، ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم ، فردهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه السلام ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر ، فقامت فيهم الأنبياء ، فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ، وذلك قوله تعالى : ثم رددنا لكم الكرة عليهم .

وأما ما قيل : من أن المراد : قبول توبتهم عن عبادة العجل ; فقد عرفت أن ذلك لا تعلق له بالمقام ، ولم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم ; تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم ، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم ، تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى : ثم عموا وصموا وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم ، وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى ، وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام ، لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل ، لما عرفت سره ، فإن فنون [ ص: 65 ] الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى ، خلا أن انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين ، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام ، يقضي بأن المراد ما ذكرناه ، والله عنده علم الكتاب .

وقرئ : ( عموا وصموا ) بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم ; أي : رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نزكته : إذا ضربته بالنيزك ، وركبته : إذا ضربته بركبتك .

وقوله تعالى : كثير منهم بدل من الضمير في الفعلين . وقيل : خبر مبتدأ محذوف ; أي : أولئك كثير منهم .

والله بصير بما يعملون ; أي : بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل . والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ، ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل ، والمعنى : حسبوا أن لا يصيبهم عذاب ، ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات ، والله بصير بتفاصيلها ، فكيف لا يؤاخذهم بها ؟ ومن أين لهم ذلك الحسبان الباطل ؟

ولقد وقع ذلك في المرة الأولى ، حيث سلط الله تعالى عليهم بخت نصر ، عامل لهراسب على بابل . وقيل : جالوت الجزري . وقيل : سنجاريب من أهل نينوى . والأول هو الأظهر ، فاستولى على بيت المقدس ، فقتل من أهله أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقية إلى أرضه ، فبقوا هناك على أقصى ما يكون من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة ، فردهم الله عز وجل إلى ما حكي عنهم من حسن الحال ، ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد ، فبعث الله تعالى عليهم الفرس ، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه خيدرود ، وقيل : خيدروس ; ففعل بهم ما فعل .

قيل : دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم ، فوجد فيه دما يغلي فسألهم ، فقالوا : دم قربان لم يقبل منا ، فقال : ما صدقوني ; فقتل عليه ألوفا منهم ، ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا ، فقالوا : إنه دم يحيى عليه السلام ، فقال : بمثل هذا ينتقم الله تعالى منكم ، ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم ; فهدأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية