صفحة جزء
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

وينبئ عنه قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فإنه استئناف مفيد بعبارته ; لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات ، وليس المراد بالتناهي : أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يفعله من المنكر ، كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل ، بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير اعتبار أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا ، كما في تراءوا الهلال .

وقيل : التناهي بمعنى : الانتهاء ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه : إذا امتنع عنه وتركه ; فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء ، ومفيدة لاستمرارهما صريحا ، وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر ، بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقت من الأوقات ، ومن ضرورته استمرار فعل المنكر حسبما سبق ، وعلى كل تقدير فما يفيده تنكير المنكر من الوحدة [ ص: 70 ] نوعية لا شخصية ، فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به ، لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي ، والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده ، على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول ، لا إلى زمان النهي ، حتى يلزم كون النهي بعد الفعل ، فلا حاجة إلى تقدير المعاودة ، أو المثل ، أو جعل الفعل عبارة عن الإرادة ، على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول ، فلا بد من المصير إلى أحد ما ذكر من الوجهين ، أو إلى تقدير المثل ، أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته ، وفي كل ذلك تعسف لا يخفى .

لبئس ما كانوا يفعلون تقبيح لسوء أعمالهم ، وتعجيب منه بالتوكيد القسمي ، كيف لا وقد أداهم إلى ما شرح من اللعن الكبير ، وليس في تسببه بذلك دلالة على خروج كفرهم عن السببية ، مع الإشارة إلى سببيته له فيما سبق من قوله تعالى : " لعن الذين كفروا " ; فإن إجراء الحكم على الموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له ، لما أن ما ذكر في حيز السببية مشتمل على كفرهم أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية