صفحة جزء
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ... إلخ ، كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته عز وجل ، وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على تنزيل الآية ، وإنما لا ينزلها محافظة على الحكم البالغة .

وزيادة " من " لتأكيد الاستغراق ، و" في " متعلقة بمحذوف ، هو وصف لدابة ، مفيد لزيادة التعميم ، كأنه قيل : وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض .

وكذا زيادة الوصف في قوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه مع ما فيه من زيادة التقرير ; أي : ولا طائر من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه ، كما هو المشاهد المعتاد . وقرئ : ( ولا طائر ) بالرفع عطفا على محل الجار والمجرور ، كأنه قيل : وما من دابة ولا طائر .

إلا أمم ; أي : طوائف متخالفة ، والجمع باعتبار المعنى ، كأنه قيل : وما من دواب ولا طير إلا أمم .

أمثالكم ; أي : كل أمة منها مثلكم في أن أحوالها محفوظة ، وأمورها مقننة ، ومصالحها مرعية ، جارية على سنن السداد ، ومنتظمة في سلك التقديرات الإلهية ، والتدبيرات الربانية .

ما فرطنا في الكتاب من شيء يقال : فرط الشيء ; أي : ضيعه وتركه . قال ساعدة بن حوية : معه سقاء لا يفرط حمله ; أي : لا يتركه ولا يفارقه ، ويقال : فرط في الشيء ; أي : أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله .

فقوله تعالى : " في الكتاب " ; أي : في القرآن ، على الأول ظرف لغو ، وقوله تعالى : " من شيء " مفعول لفرطنا ، ومن مزيدة للاستغراق ; أي : ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة ، التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي .

وعلى الثاني مفعول للفعل ، و" من شيء " في موضع المصدر ; أي : ما جعلنا الكتاب مفرطا فيه شيئا من التفريط ، بل ذكرنا فيه كل ما لا بد من ذكره ، وأيا ما كان ; فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها .

وقيل : الكتاب : اللوح ; فالمراد بالاعتراض : الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة في اللوح المحفوظ ، غير مقصورة على هذا القدر المجمل . وقرئ : ( فرطنا ) بالتخفيف .

وقوله تعالى : ثم إلى ربهم يحشرون بيان لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا ، وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم ، والتعبير عنها بالأمم ; أي : إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم ، لا إلى غيره ، فيجازيهم ، فينصف بعضهم من بعض ، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ، وقيل : حشرها : موتها ، ويأباه مقام تهويل الخطب وتفظيع الحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية