صفحة جزء
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين

وقوله تعالى : فلما جن عليه الليل على الأول وهو الحق المبين ، عطف على " قال إبراهيم " ، داخل تحت ما أمر بذكره بالأمر بذكر وقته ، وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق وما لحق ، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ، ومالكيته للسماوات والأرض وما فيهما ، وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه في الوجود ، وسائر ما يترتب عليه من الكمالات ، وكونه من الراسخين في معرفة شئونه تعالى ، الواصلين إلى ذروة عين اليقين ، مما يقضي بأن يحكم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه [ ص: 153 ] سبحانه ، من الأصنام والكواكب .

وعلى الثاني هو تفصيل لما ذكر من إراء ملكوت السماوات والأرض ، وبيان لكيفية استدلاله عليه السلام ، ووصوله إلى رتبة الإيقان ، ومعنى جن عليه الليل : ستره بظلامه .

وقوله تعالى : رأى كوكبا جواب لما ، فإن رؤيته إنما تتحقق بزوال نور الشمس عن الحس ، وهذا صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع ، بل كان غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس ، والتحقيق أنه كان قريبا من الغروب كما ستعرفه . قيل : كان ذلك الكوكب هو الزهرة ، وقيل : هو المشترى .

وقوله تعالى : قال هذا ربي استئناف مبني على سؤال نشأ من الشرطية السابقة ، المتفرعة على بيان إراءته عليه السلام ملكوت السماوات والأرض ، فإن ذلك مما يحمل السامع على استكشاف ما ظهر منه عليه السلام من آثار تلك الإراءة وأحكامها ، كأنه قيل : فماذا صنع عليه السلام حين رأى الكوكب ؟ فقيل : قال على سبيل الوضع والفرض : هذا ربي ، مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، فإن المستدل على فساد قول يحكيه على رأي خصمه ، ثم يكر عليه بالإبطال ، ولعل سلوك هذه الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكواكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام ، لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول ، فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام ، لتمادوا في المكابرة والعناد ، ولجوا في طغيانهم يعمهون .

وقيل : قاله عليه السلام على وجه النظر والاستدلال ، وكان ذلك في زمان مراهقته وأول أوان بلوغه ، وهو مبني على تفسير الملكوت بآياتهما ، وعطف قوله تعالى ; ليكون على ما ذكر من العلة المقدرة ، وجعل قوله تعالى : " فلما جن ... " إلخ ، تفصيلا لما ذكر من الإراءة ، وبيانا لكيفية الاستدلال .

وأنت خبير بأن كل ذلك مما يخل بجزالة النظم الجليل ، وجلالة منصب الخليل عليه الصلاة والسلام .

فلما أفل ; أي : غرب .

قال لا أحب الآفلين ; أي : الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ، المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار ، فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية قطعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية