صفحة جزء
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين

ولقد خلقناكم ثم صورناكم تذكير لنعمة عظيمة فائضة على آدم عليه السلام ، سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم ، وتأخيره عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين في الأرض ، إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة ، وإما للإيذان بأن كلا منها نعمة مستقلة مستوجبة للشكر على حيالها ، فإن رعاية الترتيب الوقوعي ربما تؤدي إلى توهم عد الكل نعمة واحدة ، كما ذكر في قصة البقرة .

وتصدير الجملتين بالقسم وحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونهما ، وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين ، مع أن المراد بهما : خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما ، توفية لمقام الامتنان حقه ، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم [ ص: 215 ] بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام ، وتصويره لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام ، كسجود الملائكة له عليه السلام ، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا ; إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه ، ومصنوع على شاكلته ، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره ; أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ، ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار إليكم جميعا .

ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم صريح في أنه ورد بعد خلقه عليه الصلاة والسلام ، وتسويته ونفخ الروح فيه أمر منجز ، غير الأمر المعلق الوارد قبل ذلك بقوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، وهو المراد بما حكي بقوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ... الآية في سورة البقرة ، وسورة بني إسرائيل ، وسورة الكهف ، وسورة طه ، من غير تعرض لوقته .

وكلمة " ثم " ههنا تقتضي تراخيه عن التصوير ، من غير تعرض لبيان ما جرى بينهما من الأمور ، وقد بينا في سورة البقرة أن ذلك ظهور فضل آدم عليه السلام بعد المحاورة المسبوقة بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به قوله عز وجل : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة إلى قوله : وما كنتم تكتمون .

فإن ذلك أيضا من جملة ما نيط به الأمر المعلق من التسوية ونفخ الروح ، وعدم ذكره عند الحكاية لا يقتضي عدم ذكره عند وقوع المحكي ، كما أن عدم ذكر الأمر المعلق عند حكاية الأمر المنجز لا يستلزم عدم مسبوقيته به ، فإن حكاية كلام واحد على أساليب مختلفة يقتضيها ، ليست بعزيزة في الكلام العزيز ، فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أولا جميع ما يتوقف عليه الأمر المنجز إجمالا بأن قيل مثلا : إني خالق بشرا من طين ، وجاعل إياه خليفة في الأرض ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ، وتبين لكم فضله ، فقعوا له ساجدين ; فخلقه فسواه ، فنفخ فيه من روحه ، فقالوا عند ذلك ما قالوا ، أو ألقي إليهم خبر الخلافة بعد تحقق الشرائط المذكورة بأن قيل إثر نفخ الروح : إني جاعل هذا خليفة في الأرض ، فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا ، فأيده الله تعالى بتعليم الأسماء ، فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا ، فعند ذلك ورد الأمر المنجز اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا بوقته .

وقد حكي بعض الأمور المذكورة في بعض المواطن ، وبعضها في بعضها ، اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في موطن آخر ، والذي يرفع غشاوة الاشتباه عن البصائر السليمة ، أن ما في سورة ( ص ) من قوله تعالى : إذ قال ربك للملائكة الآيات ، بدل من قوله : إذ يختصمون فيما قبله من قوله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ; أي : بكلامهم عند اختصامهم .

ولا ريب في أن المراد بالملأ الأعلى : الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس ، حسبما أطبق عليه جمهور المفسرين ، وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن الخلافة من التقاول ، الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء .

ومن قضية البدلية وقوع الاختصام المذكور في تضاعيف ما شرح فيه مفصلا من الأمر المعلق ، وما علق به من الخلق والتسوية ، ونفخ الروح فيه ، وما ترتب عليه من سجود الملائكة ، وعناد إبليس ولعنه ، وإخراجه من بين الملائكة ، وما جرى بعده من الأفعال والأقوال ، وإذ ليس تمام الاختصام بعد سجود الملائكة ، ومكابرة إبليس وطرده من البين ، لما عرفت من أنه أحد المختصمين ، كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة ; فإذن هو بعد نفخ الروح وقبل السجود بأحد الطريقين المذكورين ، والله تعالى أعلم .

فسجدوا ; أي : الملائكة عليهم السلام بعد الأمر من غير تلعثم .

إلا إبليس استثناء متصل [ ص: 216 ] لما أنه كان جنيا مفردا ، مغمورا بألوف من الملائكة ، متصفا بصفاتهم ، فغلبوا عليه فيه فسجدوا ، ثم استثني استثناء واحد منهم ، أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم : الجن ، كما مر في سورة البقرة .

فقوله تعالى : لم يكن من الساجدين ; أي : ممن سجد لآدم ، كلام مستأنف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء ، فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجود ، وبه علم أنه لم يقع قط . وقيل : منقطع ; فحينئذ يكون متصلا بما بعده ; أي : لكن إبليس لم يكن من الساجدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية