صفحة جزء
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد

هذا حث منه تعالى وترغيب في النظر بآياته الدالات على وحدانيته وكماله، فقال: ألم تر ؛ أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك أن الله أنزل من السماء ماء وهو: المطر، فينزل على أرض خاشعة مجدبة، قد اغبرت أرجاؤها، ويبس ما فيها من شجر ونبات، فتصبح مخضرة قد اكتست من كل زوج كريم، وصار لها بذلك منظر بهيج، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.

إن الله لطيف خبير اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء وخفياتها [ ص: 1113 ] وسرائرها، الذي يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد، ومن لطفه أنه يري عبده عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، ومن لطفه أنه يعلم مواقع القطر من الأرض، وبذور الأرض في باطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات، خبير بسرائر الأمور، وخبايا الصدور، وخفايا الأمور.

(64) له ما في السماوات والأرض خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره، ليس لأحد غيره من الأمر شيء.

وإن الله لهو الغني بذاته، الذي له الغنى المطلق التام، من جميع الوجوه، ومن غناه أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه، ولا يواليهم من ذلة، ولا يتكثر بهم من قلة، ومن غناه أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ومن غناه أنه صمد، لا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق بوجه من الوجوه، فهو يطعم ولا يطعم، ومن غناه أن الخلق كلهم مفتقرون إليه، في إيجادهم وإعدادهم وإمدادهم، وفي دينهم ودنياهم، ومن غناه أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض الأحياء منهم والأموات في صعيد واحد، فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته فأعطاهم فوق أمانيهم ما نقص ذلك من ملكه شيئا، ومن غناه أن يده سحاء بالخير والبركات الليل والنهار، لم يزل إفضاله على الأنفاس، ومن غناه وكرمه ما أودعه في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

الحميد ؛ أي: المحمود في ذاته، وفي أسمائه؛ لكونها حسنى، وفي صفاته؛ لكونها كلها صفات كمال، وفي أفعاله؛ لكونها دائرة بين العدل والإحسان والرحمة والحكمة، وفي شرعه؛ لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، الذي له الحمد، الذي يملأ ما في السماوات والأرض، وما بينهما، وما شاء بعدها، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهو المحمود على توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله، وهو الغني في حمده، الحميد في غناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية