صفحة جزء
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم [ ص: 1147 ] ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون

(101) يخبر تعالى عن هول يوم القيامة، وما في ذلك اليوم من المزعجات والمقلقات، وأنه إذا نفخ في الصور نفخة البعث فحشر الناس أجمعون لميقات يوم معلوم، أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم أنسابهم، التي هي أقوى الأسباب، فغير الأنساب من باب أولى، وأنه لا يسأل أحد أحدا عن حاله؛ لاشتغاله بنفسه، فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا سعادة بعدها؟ قال تعالى: يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .

(102) وفي القيامة مواضع يشتد كربها، ويعظم وقعها، كالميزان الذي يميز به أعمال العبد، وينظر فيه بالعدل ما له وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر، من الخير والشر، فمن ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته على سيئاته فأولئك هم المفلحون لنجاتهم من النار، واستحقاقهم الجنة، وفوزهم بالثناء الجميل. (103) ومن خفت موازينه بأن رجحت سيئاته على حسناته، وأحاطت بها خطيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم كل خسارة، غير هذه الخسارة، فإنها - بالنسبة إليها- سهلة، ولكن هذه خسارة صعبة، لا يجبر مصابها، ولا يستدرك فائتها، خسارة أبدية، وشقاوة سرمدية، قد خسر نفسه الشريفة، التي يتمكن بها من السعادة الأبدية ففوتها هذا النعيم المقيم، في جوار الرب الكريم، في جهنم خالدون لا يخرجون منها أبد الآبدين، وهذا الوعيد - إنما هو كما ذكرنا - لمن أحاطت خطيئاته بحسناته، ولا يكون ذلك إلا كافرا، فعلى هذا لا يحاسب محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويخزون بها. وأما من معه أصل الإيمان، ولكن عظمت سيئاته، فرجحت على حسناته، فإنه - وإن دخل النار - لا يخلد فيها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.

(104) ثم ذكر تعالى سوء مصير الكافرين فقال: تلفح وجوههم النار ؛ أي: تغشاهم من جميع جوانبهم، حتى تصيب أعضاءهم الشريفة، ويتقطع لهبها عن [ ص: 1148 ] وجوههم، وهم فيها كالحون قد عبست وجوههم، وقلصت شفاههم، من شدة ما هم فيه، وعظيم ما يلقونه.

(105) فيقال لهم - توبيخا ولوما -: ألم تكن آياتي تتلى عليكم تدعون بها؛ لتؤمنوا، وتعرض عليكم؛ لتنظروا، فكنتم بها تكذبون ظلما منكم وعنادا، وهي آيات بينات، دالات على الحق والباطل، مبينات للمحق والمبطل؟! (106) فحينئذ أقروا بظلمهم، حيث لا ينفع الإقرار قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا ؛ أي: غلبت علينا الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق، والإقبال على ما يضر وترك ما ينفع، وكنا قوما ضالين في عملهم، وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون، أي: فعلنا في الدنيا فعل التائه الضال السفيه، كما قالوا في الآية الأخرى: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير . (107) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون وهم كاذبون في وعدهم هذا، فإنهم كما قال تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولم يبق الله لهم حجة، بل قطع أعذارهم، وعمرهم في الدنيا، ما يتذكر فيه من تذكر، ويرتدع فيه المجرم. (108) فقال الله جوابا لسؤالهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون وهذا القول - نسأله تعالى العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب، والتوبيخ، والذل، والخسار، والتأييس من كل خير، والبشرى بكل شر، وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم. (109) ثم ذكر الحال التي أوصلتهم إلى العذاب، وقطعت عنهم الرحمة فقال: إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه ما يدل على خضوعهم وخشوعهم وانكسارهم لربهم وخوفهم ورجائهم؛ فهؤلاء سادات الناس وفضلاؤهم. (110) فاتخذتموهم أيها الكفرة الأنذال ناقصو العقول والأحلام سخريا تهزءون بهم وتحتقرونهم، حتى اشتغلتم بذلك السفه. حتى أنسوكم [ ص: 1149 ] ذكري وكنتم منهم تضحكون وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر اشتغالهم بالاستهزاء بهم، كما أن نسيانهم للذكر يحثهم على الاستهزاء، فكل من الأمرين يمد الآخر، فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!

(111) إني جزيتهم اليوم بما صبروا على طاعتي، وعلى أذاكم، حتى وصلوا إلي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم، والنجاة من الجحيم، كما قال في الآية الأخرى: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون الآيات.

(112 - 114 قال لهم على وجه اللوم، وأنهم سفهاء الأحلام، حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة كل شر أوصلهم إلى غضبه وعقوبته، ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون من الخير الذي يوصلهم إلى السعادة الدائمة ورضوان ربهم: كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم كلامهم هذا مبني على استقصارهم جدا لمدة مكثهم في الدنيا، وأفاد ذلك، لكنه لا يفيد مقداره ولا يعينه فلهذا قالوا فاسأل العادين ؛ أي: الضابطين لعدده، وأما هم ففي شغل شاغل وعذاب مذهل عن معرفة عدده، فقال لهم: إن لبثتم إلا قليلا سواء عينتم عدده أم لا لو أنكم كنتم تعلمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية