صفحة جزء
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما

(63) العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه، وهي المراد هنا، ولهذا أضافها إلى اسمه "الرحمن" إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم يمشون على الأرض هونا أي: ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده، وإذا خاطبهم الجاهلون أي: خطاب جهل؛ بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف، قالوا سلاما أي: [ ص: 1207 ] خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله، وهذا مدح لهم بالحلم الكثير، ومقابلة المسيء بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ورزانة العقل، الذي أوصلهم إلى هذه الحال.

(64) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما أي: يكثرون من صلاة الليل، مخلصين فيها لربهم، متذللين، له كما قال تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون .

(65) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم أي: ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب، إن عذابها كان غراما أي: ملازما لأهلها بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه.

(66) إنها ساءت مستقرا ومقاما وهذا منهم على وجه التضرع لربهم، وبيان شدة حاجتهم إليه، وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، وليتذكروا منة الله عليهم، فإن صرف الشدة بحسب شدتها وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها.

(67) والذين إذا أنفقوا النفقات الواجبة والمستحبة لم يسرفوا بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير، ولم يقتروا فيدخلوا في باب البخل والشح، وإهمال الحقوق الواجبة وكان إنفاقهم بين ذلك بين الإسراف والتقتير قواما يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار، وهذا من عدلهم واقتصادهم.

(68) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء، مقبلين عليه معرضين عما سواه، ولا يقتلون النفس التي حرم الله وهي نفس المسلم والكافر المعاهد، إلا بالحق كقتل النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله، ولا يزنون بل يحفظون فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ومن يفعل ذلك أي: الشرك بالله أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو الزنا فسوف يلق أثاما . (69) ثم فسره بقوله: يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه أي: في العذاب مهانا فالوعيد بالخلود لمن فعلها كلها ثابت لا شك فيه، وكذلك لمن [ ص: 1208 ] أشرك بالله، وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة لكونها إما شرك وإما من أكبر الكبائر.

وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود؛ لأنه قد دلت النصوص القرآنية والسنة النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ولا يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما فعل، ونص تعالى على هذه الثلاثة؛ لأنها من أكبر الكبائر: فالشرك فيه فساد الأديان، والقتل فيه فساد الأبدان، والزنا فيه فساد الأعراض.

(70) إلا من تاب عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال، وندم على ما مضى له من فعلها، وعزم عزما جازما أن لا يعود، وآمن بالله إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات وعمل عملا صالحا مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه الله، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات أي: تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة، وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية، وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال: يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا، والله أعلم.

وكان الله غفورا لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة رحيما بعباده، حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم، ثم وفقهم لها، ثم قبلها منهم.

(71) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا أي: فليعلم أن توبته في غاية الكمال؛ لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى الله الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه فليخلص فيها وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة، فالمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة وإيقاعها على أفضل الوجوه وأجلها؛ ليقدم على من تاب إليه فيوفيه أجره بحسب كمالها.

(72) والذين لا يشهدون الزور أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله، والجدال الباطل، والغيبة والنميمة، والسب والقذف والاستهزاء، والغناء المحرم، وشرب الخمر، وفرش الحرير، [ ص: 1209 ] والصور، ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه، وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية، وإذا مروا باللغو وهو الكلام الذي لا خير فيه، ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية، ككلام السفهاء ونحوهم مروا كراما أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه، ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة فربؤوا بأنفسهم عنه.

وفي قوله: وإذا مروا باللغو إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه.

(73) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم التي أمرهم باستماعها والاهتداء بها، لم يخروا عليها صما وعميانا أي لم يقابلوها بالإعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها، كما يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق، وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم، ويتم بها إيقانهم، وتحدث لهم نشاطا، ويفرحون بها سرورا واغتباطا.

(74) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا أي: قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات، وذرياتنا قرة أعين أي: تقر بهم أعيننا، وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يروهم مطيعين لربهم، عالمين عاملين، وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم؛ لأن نفعه يعود عليهم، ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا: هب لنا بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين؛ لأن بصلاح من ذكر يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.

واجعلنا للمتقين إماما أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين، وهي درجة الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم، يقتدى بأفعالهم، ويطمئن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون.

ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة -درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين، كما قال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ ص: 1210 ] فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين خيرا كثيرا وعطاء جزيلا، وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.

(75 - 76) ولهذا، لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل العاليات فقال: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا أي: المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين؛ وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالى: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ولهذا قال هنا ويلقون فيها تحية وسلاما من ربهم ومن ملائكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات.

والحاصل: أن الله وصفهم بالوقار والسكينة، والتواضع له ولعباده، وحسن الأدب، والحلم، وسعة الخلق، والعفو عن الجاهلين، والإعراض عنهم، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، وقيام الليل والإخلاص فيه، والخوف من النار، والتضرع لربهم أن ينجيهم منها، وإخراج الواجب والمستحب في النفقات، والاقتصاد في ذلك - وإذا كانوا مقتصدين في الإنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو الإفراط، فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى- والسلامة من كبائر الذنوب، والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته، والعفة عن الدماء والأعراض، والتوبة عند صدور شيء من ذلك، وأنهم لا يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية، ولا يفعلونها بأنفسهم، وأنهم يتنزهون من اللغو والأفعال الردية التي لا خير فيها، وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي، وأنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها، والاجتهاد في تنفيذ أحكامها، وأنهم يدعون الله تعالى بأكمل الدعاء، في الدعاء الذي ينتفعون به، وينتفع به من يتعلق بهم، وينتفع به المسلمون من صلاح أزواجهم وذريتهم، ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم ووعظهم ونصحهم؛ لأن من حرص على شيء ودعا الله فيه لا بد أن يكون متسببا فيه، وأنهم دعوا الله ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي درجة الإمامة والصديقية.

فلله! ما أعلى هذه الصفات، وأرفع هذه الهمم، وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك النفوس، وأطهر تلك القلوب، وأصفى هؤلاء الصفوة، وأتقى هؤلاء السادة.

ولله! فضل الله عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل.

[ ص: 1211 ] ولله! منة الله على عباده أن بين لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم، وبين لهم هممهم، وأوضح لهم أجورهم؛ ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، ويبذلوا جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي من عليهم وأكرمهم، الذي فضله في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وأوان أن يهديهم كما هداهم، ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم.

فاللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه، نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة وصرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، فلا خاب من سألك ورجاك.

(77) ولما كان الله تعالى قد أضاف هؤلاء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم، فلم لا يدخل في العبودية؟! فأخبر تعالى أنه لا يبالي ولا يعبأ بغير هؤلاء، وأنه لولا دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما عبأ بكم ولا أحبكم فقال: قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما أي: عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه، وسوف يحكم الله بينكم وبين عباده المؤمنين.

تم تفسير سورة الفرقان، فلله الحمد والثناء والشكر أبدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية