صفحة جزء
إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

(7) يعني: اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى بن عمران، ابتداء الوحي إليه واصطفائه برسالته وتكليم الله إياه، وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين وسار بأهله من مدين متوجها إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق ضل، وكان في ليلة مظلمة باردة فقال لهم: إني آنست نارا أي: أبصرت نارا من بعيد سآتيكم منها بخبر عن الطريق، أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون أي: تستدفئون، وهذا دليل على أنه تائه ومشتد برده هو وأهله.

(8) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها أي: ناداه الله تعالى وأخبره أن هذا محل مقدس مبارك، ومن بركته أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وندائه وإرساله، وسبحان الله رب العالمين عن أن يظن به نقص أو سوء، بل هو الكامل في وصفه وفعله.

(8) يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم أي: أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة وحده، لا شريك له، كما في الآية الأخرى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا [ ص: 1242 ] فاعبدني وأقم الصلاة لذكري العزيز الذي قهر جميع الأشياء وأذعنت له كل المخلوقات، الحكيم في أمره وخلقه، ومن حكمته أن أرسل عبده موسى بن عمران الذي علم الله منه أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه، ومن عزته أن تعتمد عليه ولا تستوحش من انفرادك وكثرة أعدائك وجبروتهم، فإن نواصيهم بيد الله، وحركاتهم وسكونهم بتدبيره.

(10) وألق عصاك فألقاها فلما رآها تهتز كأنها جان وهو ذكر الحيات سريع الحركة، ولى مدبرا ولم يعقب ذعرا من الحية التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية، فقال الله له: يا موسى لا تخف وقال في الآية الأخرى: أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ، إني لا يخاف لدي المرسلون لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره وتصريفه وأمره، فالذين اختصهم الله برسالته واصطفاهم لوحيه لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله، خصوصا عند زيادة القرب منه والحظوة بتكليمه.

(11) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء أي: فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم وما تقدم له من الجرم، وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف؟! ومع هذا من ظلم نفسه بمعاصي الله، وتاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن الله غفور رحيم، فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.

(12) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء لا برص ولا نقص، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه في تسع آيات إلى فرعون وقومه أي: هاتان الآيتان: انقلاب العصا حية تسعى، وإخراج اليد من الجيب فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات تذهب بها وتدعو فرعون وقومه. إنهم كانوا قوما فاسقين فسقوا بشركهم وعتوهم وعلوهم على عباد الله واستكبارهم في الأرض بغير الحق.

(13) فذهب موسى - عليه السلام - إلى فرعون وملئه، ودعاهم إلى الله تعالى، وأراهم الآيات، فلما جاءتهم آياتنا مبصرة مضيئة تدل على الحق ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس، قالوا هذا سحر مبين لم يكفهم مجرد القول بأنه [ ص: 1243 ] سحر، بل قالوا: مبين ظاهر لكل أحد، وهذا من أعجب العجائب، الآيات المبصرات والأنوار الساطعات تجعل من بين الخزعبلات وأظهر السحر! هل هذا إلا من أعظم المكابرة وأوقح السفسطة.

(14) وجحدوا بها أي: كفروا بآيات الله جاحدين لها، واستيقنتها أنفسهم أي: ليس جحدهم مستندا إلى الشك والريب، وإنما جحدهم مع علمهم وتيقنهم بصحتها ظلما منهم لحق ربهم ولأنفسهم، وعلوا على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أسوأ عاقبة، دمرهم الله وغرقهم في البحر، وأخزاهم، وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده.

التالي السابق


الخدمات العلمية