صفحة جزء
تفسير سورة نوح

عليه السلام وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا قال نوح رب إنهم عصوني [ ص: 1887 ] واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا

لم يذكر الله في هذه السورة إلا قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسل نوحا إلى قومه، رحمة بهم، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكا أبديا، ويعذبهم عذابا سرمديا، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: يا قوم إني لكم نذير مبين أي: واضح النذارة بينها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بين ذلك بيانا شافيا، فأخبرهم وأمرهم بأصل ذلك فقال: أن اعبدوا الله واتقوه وذلك بإفراده تعالى بالعبادة والتوحيد ، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، ويؤخركم إلى أجل مسمى أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدر البقاء في الدنيا بقضاء الله وقدره إلى وقت محدود ، وليس المتاع أبدا، فإن الموت لا بد منه، ولهذا قال: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون كما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكيا لربه: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا أي: نفورا عن الحق [ ص: 1888 ] وإعراضا، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه.

وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم أي: لأجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم وهذا محض مصلحتهم، ولكن أبوا إلا تماديا على باطلهم، ونفورا عن الحق، جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، واستغشوا ثيابهم أي تغطوا بها غطاء يغشاهم بعدا عن الحق وبغضا له، وأصروا على كفرهم وشرهم واستكبروا على الحق استكبارا فشرهم ازداد، وخيرهم بعد.

ثم إني دعوتهم جهارا أي: بمسمع منهم كلهم.

ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل طريق يظن به حصول المقصود.

فقلت استغفروا ربكم أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها.

إنه كان غفارا كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب.

ورغبهم أيضا، بخير الدنيا العاجل، فقال: يرسل السماء عليكم مدرارا أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد.

ويمددكم بأموال وبنين أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.

ما لكم لا ترجون لله وقارا أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر.

وقد خلقكم أطوارا أي: خلقا من بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، ثم إلى آخر ما يصل إليه الخلق ، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على المعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم.

واستدل أيضا بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، [ ص: 1889 ] فقال: ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا أي: كل سماء فوق الأخرى.

وجعل القمر فيهن نورا لأهل الأرض وجعل الشمس سراجا . ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمة الله وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويخاف ويرجى.

والله أنبتكم من الأرض نباتا حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه.

ثم يعيدكم فيها عند الموت ويخرجكم إخراجا للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور.

والله جعل لكم الأرض بساطا أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها.

لتسلكوا منها سبلا فجاجا فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها.

قال نوح شاكيا لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد.

إنهم عصوني فيما أمرتهم به واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خسارا أي: هلاكا وتفويتا للأرباح فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟!

ومكروا مكرا كبارا أي: مكرا كبيرا بليغا في معاندة الحق.

وقالوا لهم داعين إلى الشرك مزينين له: لا تذرن آلهتكم فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا: ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم لينشطوا -بزعمهم- على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن لا يدعوا عبادة هذه الأصنام .

وقد أضلوا كثيرا أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من الخلق، ولا تزد الظالمين إلا ضلالا أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم للحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، [ ص: 1890 ] ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال: مما خطيئاتهم أغرقوا في اليم الذي أحاط بهم فأدخلوا نارا فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ينصرونهم حين نزل بهم الأمر، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.

وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك فقال: إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح -عليه السلام- ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، فلهذا استجاب الله له دعوته ، فأغرقهم أجمعين ونجى نوحا ومن معه من المؤمنين.

رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال: وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا أي: خسارا ودمارا وهلاكا.

تم تفسير سورة نوح والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية