صفحة جزء
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين

هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها أعظم أجرا ؛ لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي [ ص: 784 ] تصيب العبد بغير اختياره ، وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها

(23-24 ) وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز ، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ، أن " راودته التي هو في بيتها عن نفسه " أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير شعور أحد ، ولا إحساس بشر . ( و ) زادت المصيبة بأن " غلقت الأبواب " وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها فقالت هيت لك أي : افعل الأمر المكروه وأقبل إلي ! ومع هذا ؛ فهو غريب لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم ، فصبر عن معصية الله مع وجود الداعي القوي فيه ؛ لأنه قد هم فيها هما تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة ، و قال معاذ الله أي : أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ؛ لأنه مما يسخط الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي . فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح .

والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما من الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ؛ لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله واختارهم واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه .

(25 ) ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة ؛ ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب ليتخلص ويهرب من الفتنة ، فبادرته إليه وتعلقت بثوبه ، فشقت قميصه ، فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال ؛ ألفيا سيدها - أي : [ ص: 785 ] زوجها- لدى الباب ، فرأى أمرا شق عليه ، فبادرت إلى الكذب ، وأن المراودة قد كانت من يوسف ، وقالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ولم تقل : من فعل بأهلك سوءا ؛ تبرئة لها وتبرئة له أيضا من الفعل ، وإنما النزاع عند الإرادة والمراودة ، إلا أن يسجن أو عذاب أليم أي : أو يعذب عذابا أليما .

(26 ) فبرأ نفسه مما رمته به ، و قال هي راودتني عن نفسي : فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم يعلم أيهما ، ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه ، قد يعلمها العباد وقد لا يعلمونها ، فمن الله تعالى في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام ، فانبعث شاهد من أهل بيتها يشهد بقرينة ، من وجدت معه فهو الصادق ، فقال : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ؛ لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها ، المراود لها المعالج ، وأنها أرادت أن تدفعه عنها ، فشقت قميصه من هذا الجانب .

(27 وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين : لأن ذلك يدل على هروبه منها ، وأنها هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب .

(28 فلما رأى قميصه قد من دبر عرف بذلك صدق يوسف وبراءته ، وأنها هي الكاذبة ، فقال لها سيدها : إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم : وهل أعظم من هذا الكيد الذي برأت به نفسها مما أرادت وفعلت ورمت به نبي الله يوسف عليه السلام ؟!

(29 ) ثم إن سيدها لما تحقق الأمر ؛ قال ليوسف : يوسف أعرض عن هذا أي : اترك الكلام فيه وتناسه ولا تذكره لأحد طلبا للستر على أهله ، واستغفري : أيتها المرأة لذنبك إنك كنت من الخاطئين : فأمر يوسف بالإعراض ، وهي بالاستغفار والتوبة .



التالي السابق


الخدمات العلمية