صفحة جزء
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون

(159) هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله من البينات الدالات على الحق المظهرات له، والهدى وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا للناس ما من الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله فأولئك يلعنهم الله أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته، ويلعنهم اللاعنون وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.

(160) إلا الذين تابوا أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما وإقلاعا، [ ص: 118 ] وعزما على عدم المعاودة وأصلحوا ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن، ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضا حتى يبين ما كتمه ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه، لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة، تاب الله عليه، لأنه التواب أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح بعد الذنب إذا تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع إذا رجعوا، الرحيم الذي اتصف بالرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم لطفا وكرما، هذا حكم التائب من الذنب.

(161) وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه، ولم ينب إليه، ولم يتب عن قريب فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.

(162) خالدين فيها أي: في اللعنة، أو في العذاب والمعنيان متلازمان، لا يخفف عنهم العذاب بل عذابهم دائم شديد مستمر ولا هم ينظرون أي: يمهلون، لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى، ولم يبق لهم عذر فيعتذرون.

التالي السابق


الخدمات العلمية