صفحة جزء
ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا

(89) أي: لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب التي أعطاه الله. (90) فوصل إلى مطلع الشمس فـ وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ؛ أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إياه بأبدانهم. (91) ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به، ولهذا قال كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ؛ أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة، وعلمنا معه حيثما توجه وسار.

(92- 93) ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال المتصلة يمنة ويسرة، حتى تتصل بالبحار، بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما لا يكادون يفقهون قولا لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم. (94) وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم وراجعهم وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان [ ص: 983 ] عظيمتان من بني آدم فقالوا: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. فهل نجعل لك خرجا ؛ أي: جعلا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة؛ ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض. (95) فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم؛ لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم: ما مكني فيه ربي خير ؛ أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم أجعل بينكم وبينهم ردما ؛ أي: مانعا من عبورهم عليكم.

(96) آتوني زبر الحديد ؛ أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك، حتى إذا ساوى بين الصدفين ؛ أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد قال انفخوا النار أي: أوقدوها إيقادا عظيما، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد قال آتوني أفرغ عليه قطرا ؛ أي: نحاسا مذابا، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاما هائلا، وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج.

(97) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ؛ أي: فما لهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه؛ لارتفاعه، ولا على نقبه لإحكامه وقوته.

(98) فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل أضاف النعمة إلى موليها، وقال: هذا رحمة من ربي ؛ أي: من فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء الصالحين إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله، كما قال سليمان - عليه السلام - لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض، فإن النعم الكبار تزيدهم أشرا وبطرا، كما قال قارون - لما آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة - قال: إنما أوتيته على علم عندي .

وقوله: فإذا جاء وعد ربي ؛ أي: لخروج يأجوج ومأجوج جعله ؛ أي: ذلك السد المحكم المتقن دكاء ؛ أي: دكه فانهدم، واستوى هو والأرض وكان وعد ربي حقا

[ ص: 984 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية