صفحة جزء
قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

(49) أي: قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: فمن ربكما يا موسى ؟ (50) فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح، فقال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ؛ أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، الدال على حسن صنعة من خلقه، من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله - تعالى - أعطى الحيوان البهيم من العقل ما يتمكن به على ذلك، وهذا كقوله تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا، [ ص: 1029 ] وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فلو قدر أن الإنسان أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك. (51) ولهذا لما لم يمكن فرعون أن يعاند هذا الدليل القاطع عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود فقال لموسى: فما بال القرون الأولى ؛ أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر، والظلم، والعناد، ولنا فيهم أسوة؟ (52) فقال موسى: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ؛ أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتابه، وهو اللوح المحفوظ، وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها.

ومضمون ذلك أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها، فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها، قد تحققت صدقها ويقينها - وهو الواقع - فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل، وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة، فالطريق مفتوح، وباب البحث غير مغلق، فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان، ولن تجد لذلك سبيلا ما دام الملوان، كيف وقد أخبر الله عنه أنه جحدها مع استيقانها، كما قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال موسى: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.

(53) ثم استطرد في هذا الدليل القاطع بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري، فقال: الذي جعل لكم الأرض مهدا ؛ أي: فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها، والقرار، والبناء، والغراس، وإثارتها للازدراع وغيره، وذللها لذلك، ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم.

وسلك لكم فيها سبلا ؛ أي: نفذ لكم الطرق الموصلة من أرض إلى أرض، ومن قطر إلى قطر، حتى كان الآدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون، وينتفعون بأسفارهم أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.

وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ؛ [ ص: 1030 ] أي: أنزل المطر فأحيا به الأرض بعد موتها وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلاف أنواعها، وتشتت أشكالها، وتباين أحوالها، فساقه، وقدره، ويسره، رزقا لنا ولأنعامنا، ولولا ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان. (54) ولهذا قال: كلوا وارعوا أنعامكم : وسياقها على وجه الامتنان؛ ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النوابت الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما كان مضرا، كالسموم ونحوه.

إن في ذلك لآيات لأولي النهى ؛ أي: لذوي العقول الرزينة، والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه، ورحمته، وسعة جوده، وتمام عنايته، وعلى أنه الرب المعبود، المالك المحمود، الذي لا يستحق العبادة سواه، ولا الحمد والمدح والثناء إلا من امتن بهذه النعم، وعلى أنه على كل شيء قدير، فكما أحيا الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى.

وخص الله أولي النهى بذلك؛ لأنهم المنتفعون بها، الناظرون إليها نظر اعتبار، وأما من عداهم فإنهم بمنزلة البهائم السارحة، والأنعام السائمة، لا ينظرون إليها نظر اعتبار، ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها، بل حظهم حظ البهائم، يأكلون ويشربون، وقلوبهم لاهية، وأجسادهم معرضة. وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون .

(55) ولما ذكر كرم الأرض، وحسن شكرها لما ينزله الله عليها من المطر، وأنها بإذن ربها تخرج النبات المختلف الأنواع، أخبر أنه خلقنا منها، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها، ومنها يخرجنا تارة أخرى ، فكما أوجدنا منها من العدم - وقد علمنا ذلك وتحققناه - فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا؛ ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها.

وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان: إخراج النبات من الأرض بعد موتها، وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية