صفحة جزء
( والحكم بالصحة يستلزم ثبوت الملك والحيازة قطعا ) ، فمن ادعى أنه ابتاع من المدعى عليه عينا واعترف له بذلك لم يجز للحاكم الحكم بصحة البيع بمجرد ذلك ، حتى يدعي المدعي أنه باعه العين المذكورة وهو مالك ، ويقيم البينة بذلك . ( والحكم بالموجب ) بفتح الجيم ( حكم بموجب الدعوى الثابتة ببينة أو غيرها ) كالإقرار والنكول ، ( فالدعوى المشتملة على ما يقتضي صحة العقد المدعى به ) من نحو بيع أو إجارة ( الحكم فيها بالموجب حكم بالصحة ) ; لأنها من موجبه كسائر آثاره .

قال الولي العراقي : فيكون الحكم بالموجب حينئذ أقوى مطلقا لسعته وتناوله الصحة وآثارها .

( و ) الدعوى ( غير المشتملة على ذلك ) أي ما يقتضي صحة العقد المدعى به كأن ادعى أنه باعه العين فقط ( الحكم فيها بالموجب ليس حكما بها ) أي : الصحة ، إذ موجب الدعوى حينئذ حصول صورة بيع بينهما ولم تشتمل الدعوى على ما يقتضي صحته ; حيث لم يذكر أن العين كانت للبائع ملكا ولم تقم به بينة ، وصحة العقد تتوقف على ذلك بخلاف ما سبق . لا يقال : هو أيضا في الأولى لم يدع الصحة فكيف يحكم له بها ؟ لأن دعواها وإن لم تكن صريحة فهي واقعة ضمنا ; لأنها مقصود المشتري .

( وقال بعضهم ) هو التقي السبكي وتبعه ابن قندس : ( الحكم بالموجب يستدعي صحة الصيغة ) أي الإيجاب [ ص: 505 ] والقبول قولين كانا أو فعلين ، أو صيغة الوقف أو العتق كذلك ، ( وأهلية المتصرف ) من بائع وواقف ونحوهما ، ( ويزيد الحكم بالصحة كونه تصرفه في محله ) بأن يكون تصرفه فيما يملكه ولا مانع منه ، ( وقاله ) السبكي ( أيضا الحكم بالموجب هو الأثر ) أي : الحكم بالأثر ( الذي يوجبه اللفظ ) أي : يترتب على صيغة العاقد ، ( و ) الحكم ( بالصحة كون اللفظ ) أي الصيغة ( بحيث يترتب عليه الأثر ) من انتقال الملك ونحوه ، فالحكم بالموجب حكم على العاقد بمقتضى عقده ، لا حكم بالعقد بخلاف الحكم بالصحة ، ( وهما ) أي : الحكم بالصحة والحكم بالموجب ( مختلفان فلا يحكم بالصحة إلا باجتماع لشروط ) أي : شروط العقد المحكوم بصحته ، وإن لم يجتمع ، فهو حكم بالموجب .

( والحكم بالإقرار ونحوه كالحكم بموجبه ) ، إذ معناه إلزام المقر بما أقر به وهو أثر إقراره ، ولا يحكم بالصحة ، نقله الولي العراقي عن شيخه البلقيني وقال : ولا يظهر لهذا معنى فليتأمل ، وقد رجع الشيخ إلى ما ذكرته أولا من أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة ( والحكم بالموجب لا يشمل الفساد انتهى ) ، هذا رد لقول القائل : إن الحكم بالموجب لا فائدة له ; لأن معناه حكمت بصحته إن كان صحيحا وبفساده إن كان فاسدا ، فهو تحصيل للحاصل ، وحاصل الجواب أن موجبه هي آثاره التي تترتب عليه ، والفساد ليس منها فلا يشمله الحكم بالموجب ، قال ( المنقح : والعمل على ذلك .

وقالوا ) أي الأصحاب : ( الحكم بالموجب يرفع الخلاف ) ; لأنه حكم على العاقد بمقتضى ما ثبت عليه من العقد ، فلو وقف على نفسه وحكم بموجبه من يراه فليس لشافعي سماع دعوى الواقف في إبطال الوقف بمقتضى كونه وقفا على النفس ، حتى يتبين موجب لعدم صحة الوقف ككون الموقوف مرهونا مثلا . وقد ذكر الولي العراقي في رسالة له ذكرها في شرحه فروقا بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب عن شيخه البلقيني مع مناقشته له ، وذكر ملخص ما اختاره غير ما سبق منها أن الحكم بالموجب يتناول الآثار بالتنصيص عليها للإتيان بلفظ عام يتناول جميع آثارها ، فإن موجب الشيء هو مقتضاه ، وهو مفرد مضاف فيعم كل موجب بخلاف لفظ الصحة ; فإنها إنما تتناول الآثار بالتضمن لا بالتنصيص عليها ، ومقتضاه أن يكون الحكم بالموجب أعلى ، وهو خلاف الاصطلاح ، ولو حكم حنفي [ ص: 506 ] بموجب التدبير لم يجز بيعه بعد ; لأن من موجبه منع بيع المدبر فقد صار محكوما بعدم بيعه في وقته ، بخلاف ما لو علق مكلف طلاق أجنبية على تزويجه بها وحكم بموجبه حنفي أو مالكي ثم تزوج بها وبادر شافعي وحكم باستمرار العصمة وعدم وقوع الطلاق نفذ حكمه ، ولم يكن نقضا لحكم الأول بموجب التعليق ; لأنه يتناول وقوع الطلاق لو تزوج بها ; لأنه أمر لم يقع إلى الآن فكيف يحكم على ما لم يقع ؟ ، ومنها إذا كان الصادر صحيحا باتفاق ووقع الاختلاف في موجبه ، فالحكم بالصحة لا يمنع من العمل بموجبه عند غير الحاكم بالصحة ، ولو حكم فيه بالموجب امتنع العمل بموجبه عند غير الحاكم بالموجب ، ولا بأس بهذا الفرق لكنه مقيد بما إذا كان جاء وقت الحكم بموجبه فمتى لم يجئ وقته فلغيره الحكم بموجبه عنده عند مجيء وقته .

وقد يكون الحكم بالموجب أقوى كما لو حكم شافعي بموجب شراء دار فليس للحنفي أن يحكم بشفعتها للجار ، بخلاف ما لو كان الشافعي حكم بالصحة ، وكذا لو حكم بصحة التدبير لم يمنع حكم الشافعي ببيعه بعد ، بخلاف ما لو حكم بموجبه ، وكذا لو حكم شافعي بصحة إجارة ثم مات مؤجر فللحنفي إبطالها بالموت ، ولو كان حكم بموجبها لم يكن للحنفي الحكم بإبطالها بالموت ; لأن من موجبها الدوام والاستمرار للورثة . ونازع العراقي في هذه الصورة الثالثة ، وفرق بينها وبين اللتين قبلها بأن الحكم بموجب الإجارة قبل الموت لم يتوجه إلى عدم الانفساخ ; لأنه لم يجئ وقته ولم يوجد سببه . ولو وجه الحكم إليه فقال : حكمت بعدم انفساخ الإجارة إذا مات المستأجر لم يكن ذلك حكما ، وكيف يحكم على ما لم يقع ؟ قلت : وفيه نظر ; لأن عدم انفساخ الإجارة هو معنى لزومها وهو موجود منذ تفرقا من المجلس ، فهو كمنع بيع المدبر عند الحنفي بلا فرق . ثم نقل عن شيخه البلقيني ضابطا وهو أن المتنازع فيه إن كان صحة ذلك الشيء وكانت لوازمه لا تترتب إلا بعد صحته ، كان الحكم بالصحة رافعا لخلاف واستويا حينئذ .

وإن كان المتنازع فيه الآثار واللوازم كان الحكم بالصحة غير رافع للخلاف ، وكان الحكم بالموجب رافعا وقوي الموجب حينئذ ، وإن كانت آثاره تترتب مع فساده قوي الحكم بالصحة على الحكم بالموجب ، لكن لو حكم حنفي بموجب وقف شرط فيه التغيير والزيادة والنقص ، فهل للشافعي المبادرة بعد التغيير [ ص: 507 ] إلى الحكم بإبطاله ; لأنه إلى الآن لم يقع كما سبق في مسألة التعليق ؟ أو ليس له ذلك كمسألة التدبير والشفعة ; لأن حكم الحنفي بموجبه يتضمن الإذن للواقف في التغيير ، فقد فعل ما هو مأذون له فيه من حاكم شرعي فليس لحاكم آخر منعه . قال : وقد تحرر من الفرق بين الحكم بالموجب والصحة أن الحكم بالصحة متوجه إلى نفس العقد صريحا وإلى آثاره تضمنا ، وأن الحكم بالموجب متوجه إلى الآثار صريحا وإلى نفس العقد تضمنا ، فليس أحدهما أقوى من الآخر إلا على ما بحثته من توجه الحكم بالموجب إلى صحة العقد وجميع آثاره صريحا ، فإن الصحة من موجبه فيكون الحكم بالموجب حينئذ أقوى مطلقا لسعته وتناوله الصحة وآثارها .

التالي السابق


الخدمات العلمية